لم يفُز ماكرون ولا لوبان بعد
تخلو انتخابات الرئاسة الفرنسية للعام الجاري من الجاذبية والإشعاع، وتشكو من غياب من يسمّون أصحاب الرؤى والمشاريع الكبيرة بين المتنافسين، وهو أمرٌ ليس جديدا، إذ إن استحقاق 2022 الرئاسي يكاد يكون في نتائجه نسخةً عما جرى في عام 2017، ما يزيد من جرعة الرتابة، غير أن هذه المناسبة تظلّ تعكس تحوّلات المجتمع واتجاهات الحياة الجديدة، ويحدُث مثلها في دول أخرى باتت تفتقر إلى تجديد النخب، فإذا ما تجدّدت فمع فقرٍ في المعنى كما هو الأحزاب الكبيرة في المملكة المتحدة وفي الولايات المتحدة.
وقد لوحظ، مع ظهور نتائج الدورة الأولى للانتخابات الرئاسية الفرنسية، أن ثمّة سيلاً من التقارير والتعليقات التي تتناول احتمال وصول مرشّحة اليمين المتطرّف، مارين لوبان، إلى قصر الإليزيه في الدورة الثانية للانتخابات في 24 إبريل/ نيسان الجاري. وعلى الرغم من أن كثرة من هذه التقارير الغربية أساساً تحذّر من هذا الاحتمال، إلا أن التركيز عليه قد يصبّ في صالح هذه المترشّحة، فهذا التجييش، غير المقصود في غالبه، وذلك الإيحاء "الصريح"، أن الطريق إلى فوزها بات مُمهداً بعد أن تقلص الفارق بينها وبين الرئيس مانويل ماكرون (حزب الجمهورية إلى الأمام) إلى أكثر بقليل من أربع نقاط، يكاد يهيئ الأجواء والأذهان لتسمية لوبان أول رئيسة للجمهورية، علماً أن حظوظ ماكرون تبقى أوفر في انتخاباتٍ لا يسع أحدٌ التنبؤ بنتائجها، حالها مثل حال الزلازل.
حافظ ماكرون على موقفٍ متوازنٍ حيال الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وتمسّك بحل الدولتين وبتقديم الدعم للسلطة والمؤسسات الفلسطينية
لقد صعد ماكرون قبل خمس سنوات، وكان وجها جديدا نسبيا على أنقاض الأحزاب التقليدية. ولا يختلف صعود لوبان عن هذا المنحى، وهذا من دون التقليل من أثر الأزمات الاقتصادية والاجتماعية في تحديد خيارات الناخبين، خصوصا غير الحزبيين وغير المسيسين منهم. ويجمعهما معاً أنهما يرثان أحزاب اليمين التقليدية: ماكرون في يمين الوسط (رغم تاريخه القصير لثلاث سنوات في عضوية الحزب الاشتراكي) ومنافسته في أقصى اليمين. وقد باتت الأخيرة تتمتع بخبرة انتخابية، كما قالت، بعد تجربتها في التنافس مع ماكرون في الانتخابات الرئاسية لعام 2017، إلى درجة أنها ركّزت، في حملتها لهذا العام، على العدالة الاجتماعية وارتفاع كلف المعيشة بأكثر مما عُنيت بتظهير مواقفها الراسخة من "التطرّف الإسلامي"، وهو التطرّف الوحيد الذي تلحظه وتحذّر منه. وما كان للوبان سوى أن تفعل ذلك، فعلى وقْع الحشود الروسية على الحدود مع أوكرانيا، ومع نشوب الحرب الروسية على المدن الأوكرانية وعلى البنى التحتية، وعلى تشريد أكثر من ربع السكان، فقد كان متوقعا أن تصرف الأنظار عن وقوفها مع حرب الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، وهي التي سبق أن أيدت ضم القرم في عملية عسكرية خاطفة، والتقت ببوتين عشية الانتخابات السابقة، بل حازت قرضا روسيا لحزبها (التجمع الوطني). ولم تجد ما تقوله في هذه الأثناء سوى أنها لا تؤيد حظر منتجات الطاقة الروسية، وهي الشريان الأساسي لآلة الحرب، ومن دون أن تطرح خطة أو مقترحاً للتخلي التدريجي عن النفط والغاز الواردين من روسيا، كما هو حال الموقف الألماني مثلا. أما في جديد مواقفها، فقد دعت إلى تقارب استراتيجي بين روسيا وحلف الناتو، وكأن هذا الغزو لم يغّير شيئا. ويجب، من وجهة نظرها، ألا يغيّر شيئا في صورة السياسة الخارجية الروسية حيال الجيران وغيرهم، وفي طريقة التعامل مع الغزاة الذين يستسهلون اختراق الحدود ويستمرئونه. وجريا على النهج الشعبوي، في نسخته اليمينية أو اليسارية، فلطالما دعت، في مواقف سابقة، إلى تعدّدية قطبية، بدون اتخاذ مواقف نقدية من الأقطاب، وكأن تمهيد الطريق لإمبريالية روسية سوف يعزّز فرص الأمن والسلام في العالم.
تبشّر لوبان بعزلةٍ فرنسيةٍ تحت شعارات فرنسا للفرنسيين وفرنسا أولاً
خلافاً لذلك، نجح ماكرون في الجمع بين سياسةٍ تجيز استمرار التواصل مع الكرملين، سعياً إلى إيقاف الحرب الظالمة المدمرة، إذ طالما بدا وسيطاً قبل الحرب وخلالها. وفي الوقت ذاته، التزم بالعقوبات على النظام الروسي، وأسهم في تقديم مساعداتٍ إنسانية ودفاعية لأوكرانيا بأقلّ قدرٍ من الضجيج. وواقع الحال أن ماكرون هو أكثر منطقية واقناعا من لوبان، في السعي إلى الإبقاء على روسيا بعيداً عن العزلة الدولية، إذ إن إيقاف الحرب والاعتراف بحقوق قومية للأوكرانيين في وطنهم ودولتهم المستقلة، والتراجع عن اعتبار الحرب امتداداً للسياسة هو ما يكفل إبقاء روسيا ضمن معادلات الاعتماد المتبادل التي تسم علاقات "المجتمع الدولي".
لا تشكّل الحرب على أوكرانيا محور الاهتمام الوحيد للناخبين الفرنسيين، غير أن لهذه الحرب انعكاسات اقتصادية على دول العالم، بما فيها فرنسا، إذ سوف تتأثر السياحة الوافدة من بلدي الحرب ودول أوروبية أخرى إلى فرنسا، كما تتأثر سلع حيوية أخرى. ولهذا، فإن موجة الغلاء التي يشهدها هذا البلد تتأثر بمجريات الحرب، بما في ذلك التأثير النفسي العام على إيقاع الحياة.
عسى أن تصدُق مقولة إن خيارات الناخبين في الدورة الثانية عادةً أكثر رصانة وأشدّ استشعاراً للمسؤولية
وبينما تبشّر لوبان بعزلةٍ فرنسيةٍ تحت شعارات فرنسا للفرنسيين وفرنسا أولاً، مع ضعف الحماسة للدخول في تكتلات دولية، وحتى إلقاء ظلالٍ على العلاقات الفرنسية الألمانية مستقبلا، فإن منافسها يلتزم ببقاء بلاده لاعبا أساسيا على المسرحين، القارّي والدولي، وهو ما يمنح فرنسا مكانةً أكبر تنعكس على اقتصادها. هذا من دون أن تكون فرنسا في السنوات الخمس الأخيرة بعيدة عن ارتكاب الأخطاء في سياستها الخارجية حيال ليبيا مثلا، وإزاء مالي، وحتى نحو لبنان، إذ جرى الاكتفاء بحملات عاطفية ضد الفساد والمفسدين في البلد الأخير بغير إجراءات خاصة تُذكر. ويستحق التنويه هنا بأن ماكرون حافظ على موقفٍ متوازنٍ حيال الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وتمسّك بحلّ الدولتين وبتقديم الدعم للسلطة والمؤسسات الفلسطينية. أما لوبان فلا شيء يبشّر بأنها سوف تتخذ موقفا متوازنا، إذ تحرص على التقرّب من تل أبيب لإبعاد شبح الاتهام بمعاداة السامية الذي التصق بوالدها (الرئيس السابق للحزب والذي عملت ماري لوبان على فصله منه في عام 2015، وكان في ذلك التاريخ رئيسا فخريا للحزب الذي كان يحمل اسم الجبهة الوطنية، قبل أن تغير هي التسمية إلى "التجمّع الوطني"). فبينما ترفض ازدواجية الجنسية للفرنسيين، فإنها تستثني حملة الجنسية الإسرائيلية من هؤلاء. وسوف تكون عرضة للابتزازات الإسرائيلية، مع الاستعداد للاستجابة لهذه الضغوط، كما كان الحال مع دونالد ترامب في أميركا.
أجل، يتبدّى تمّيز ماكرون أساساً لدى مقارنته بمنافسته، وليس بتكوينه الذاتي أو أدائه الباهر، فقد شهدت ولايته أكبر وأطول حركة احتجاج شعبي تعرفها بلاده في الألفية الثالثة، وعُرفت بحركة السترات الصفراء، منذ مايو/ أيار 2018، وقد ترادفت معها حركة احتجاج طلابية، ولم يوقفهما سوى استشراء جائحة كورونا في عام 2020 وبعض التنازلات الحكومية. عسى أن تصدُق هذه المرّة مقولة إن خيارات الناخبين في الدورة الثانية تكون عادةً أكثر رصانة وأشدّ استشعاراً للمسؤولية.