لبنان البرّاني .. لبنان الجوّاني

17 فبراير 2022
+ الخط -

كنا نعتزّ ببلدنا لبنان "المنْفتح على الخارج". والآن صرنا بلداً برّانياً، من دون أن نحافظ على انفتاحنا. إنّما بالعكس. نهيل التراب على قبْره بعدما حوّلناه، بكيميائنا الفريدة، إلى ممرّ عريضٍ لكل تدخل خارجي. ولا تنبض يومياتنا من عباراتٍ نتداولها كتابةً وشفاهةً، وبعضه صار قولاً مأثوراً. أبسطها متلازمة تلك النعوت ضد كلّ خصم: عملاء، مياومي السفارات، مأجورين، وكلاء الصهاينة، أو الأميركيين، أو الإيرانيين... فيما لا يختلف اثنان، بعد التبحّر في أزمة بلادنا، بأنّنا لن نجد حلولاً لها إلّا بعدما يتفق الأميركيون والإيرانيون على النوَوي.

هذه الطَويّة دخلت في صميم تحليلاتنا الرائجة، على لسان المواطنين، أو بأقلام المحلِّلين، وأصبحت روتينية، لم نعد ننْتبه إليها. خذْ، على سبيل المثال، كليشيهات من نوع: لن يسمح العالم بسقوط لبنان وانهياره... والرهان اليوم على متغيرات إقليمية ودولية... ولا يمكن إنجاز ترسيم الحدود، قبل رسم معالم موازين القوى الإقليمية والاتفاق على مناطق النفوذ... هناك محاولة لفهم أبعاد الضغط الدولي... إلخ.

والآن، للانتخابات حصة أخرى من التدخل. يتساءل أحد المراقبين عن سرّ هذه المعنويات العالية لدى مرشّحي الثورة التشرينيين، بأنّ "المجتمع الدولي" (أوروبا، أميركا) صار يكرّر البيانات وينشّط الديبلوماسية، دعماً لهذه الانتخابات، بأنّ هذا المجتمع سوف يعاقب المنظومة إذا تجرّأت وأجّلت الانتخابات، وبأنّها ستكون وقتها بحاجة إلى من ينقذها من هجماته. لكن، مع استياء، أنّ هذا المجتمع الدولي وقع ضحية مبالغات المعارضة في قدرتها على "إحداث تغييرٍ جذريٍّ في هذه الانتخابات".

نتبادل الاتهامات، فيما لا يختلف اثنان، بعد التبحّر في أزمة بلادنا، بأنّنا لن نجد حلولاً لها إلّا بعدما يتفق الأميركيون والإيرانيون على النوَوي

إذ نحن أمام تدخلَين في لبنان؛ إيران بمليشياتها "الطليعية" وخصوم هذه المليشيات. والاثنان مدعومان من الخارج. الأولى، مليشيات إيران، ولا تنسى أنّ عمرها عشرات السنين، وهي على درجة من الانصهار مع قبلتها الدينية- العسكرية- المالية، إلى حدّ أنّ اللسان لم يعُد بحاجة إلى التعبير عنها. انصهار مُعْلن. ولا عقدة عند حزب الله بذلك. وكلما زاد هذا الحزب من جبروته ارتفعت ثقته بنفسه، وباتَ يتصرّف وكأنه قوة قائمة بذاتها. ونسي بأنّه مدعوم من الخارج، فيصدح في هتافات معادية لخصومه "عملاء أميركا وإسرائيل" وأخيراً... "السعودية"، ما يضعف أولئك الخصوم، خصوصاً أنّ "قطبهم" الدولي والعربي ليس على السوية، ولا الوتيرة نفسها، فالقطب أقطاب. الأميركيون، الأوروبيون، الخليجيون. أطراف متحالفة - متنافسة. لا يملكون لا إستراتيجية إيران ولا تكتيكها ولا عقيدة "حرسها" القتالية. إيران صاحبة قضيةٍ توسّعية واحدة في المشرق العربي، مثابرة، مخطّطة، تبدو أقوى وأدق من الثلاثة مجتمعين، فيما العلاقة بين "المجتمع الدولي" ومن يرعونه في الداخل اللبناني متقطّعة، متردّدة، ضعيفة .. لا تنسجها خيوط الصبر والأناة، ولا تقدر عليها "المصالح"، المتقلّبة، والتي لم تعُد كما كانت أيام عزّها.

وترى الآن حشداً من الأدوار. كلها مدعومة من هذا الطرف البرّاني أو ذاك. بإشهار، بثبات، كما مع المليشيا. أو من دونه، بتقلّب وتذبْذب. وفي موسم الانتخابات أكثر من أي وقت آخر .. لكن ثمّة استثناء عن هذه القاعدة: أي ثمّة ديناميكية تطلقها المنظومة، لا تحتاج إلى قوى خارجية. إنّما فقط إلى مخيّلةٍ شعوبيةٍ عريقة، تخدم صاحبها في ما يُعرف، بـ"شدّ العصب الطائفي". أي حشد الجمهور الانتخابي المستهدَف، برمي الكراهية على طائفةٍ محليةٍ أخرى. وهو جمهور طائفي أصلاً، يرقص بلا دفّ. مقسّم إلى طوائف. كلّ ماروني، كلّ شيعي، كلّ سني، كلّ درزي.. عليه التصويت لمرشح من طائفته. هنا يخرج من الأمعاء المحلي، شديد المحلية، أنواع من الحسابات التي لا يستطيع أن يستوعبها أيّ عقل جيوبوليتيكي، مهما كان شاطراً في لعبة الشطرنج. حسابات متنقِّلة، متناهية الصغر، زواريبية، رخْوة، سائلة... لا يفهمها إلّا أطرافها، من مُرسِلين ومتلَقّين. لا يتْقنها غيرهم. هذه هي البضاعة الجوّانية الوحيدة التي تعرضها الساحة اللبنانية. وكلّ الباقي مخردَق بثقوب شفافة أو مغبّشة.

يجد حزب الله نفسه "خارجياً" بالنسبة لسورية، وذلك بصفتين: الإيرانية واللبنانية

تُغري مقارنة هذه الحالة بتلك التي غطَست فيها الشقيقة سورية، شريكتنا السابقة في المسار والمصير. كيف يحصل أنّ لساننا منفلتٌ على التدخلات الأجنبية؛ لكلّ فريق منا شرّيره الخارجي. من دون أن يكون في بلادنا أيّ جيشٍ أجنبي محتل بقواه المسلحة الرسمية. ولا نحسب هنا مليشيا "حزب الله"... وكيف يكون الكلام غائباً عن لسان محلِّلي سورية الموالين بخصوص الاحتلالات التي تغمر بلادهم؟ روسي، إيراني، تركي، أميركي، إسرائيلي (جوياً). بمليشياتها الذهبية والفضية، بجيوشها الرسمية، بمرتزقتها التابعين لهذه الدولة أو تلك. ثم كيف نكون على هذه الدرجة من التداخل مع سورية، بحيث يشارك حزبنا المتحكّم، حزب الله، في حربها الداخلية؟ يتصرّف فيها بإمرة دولة أجنبية، ويكون "خارجياً" بالنسبة لسورية، وذلك بصفتين: الإيرانية واللبنانية؟

الفرق أنّ سورية الرسمية يحكمها رئيس واحد. ورث فن قذف الكرة بين داعميه، وفن الظهور بمظهر الرئيس الأوحد، بالقتل عموماً أو من دونه نادراً. فيما نحن منقسمون بين وجهتين متنافرتَين، والانقسام كله يدور حول حزب الله الذي لم ينل، ولن ينال، شرف "القيادة الواحدة للأمة" ما يسمح باللعب إلى ما لا نهاية على الخارج والرهان عليه، والتصفيق للقطب الداعم أو الشماتة به، أو أيّ نوع آخر من التفاعل.

ثمّة ديناميكية تطلقها المنظومة، لا تحتاج قوى خارجية، إنّما مخيّلة شعوبية عريقة، تخدم صاحبها في ما يُعرف بـ"شدّ العصب الطائفي"

وهذه أيضاً صارت تقليداً راسخاً أنّ لكلّ جماعة مزاجها الخاص في توجيه رسائلها إلى خصومها. وسورية كانت، طوال ثلاثة عقود، تمارس خارجيتها على داخلنا. حكّامنا صاروا بمثابة الشاويش في تنفيذ أمر حاكمها. ليست سورية معتادة على هذه الثقافة، على هذا النوع من الكلام. تحتاج ربما سنواتٍ ليلتقط لسانها كلمة الاحتلالات كلها، فيما نحن استدخلنا البرّانية، عبر محطّات ومحطّات.. منذ الإعلان عن لبناننا. ونحن نمدّ الداخل بقوى خارجية، على امتداد كلّ هذه السنوات والعقود، اعتدنا على اللعب في غير ملعبنا، ولكن على أرضنا، وبمعية أهلنا المستعدّين للموت من أجل المشاركة في هذه اللعبة. هكذا، سمحنا لحزب الله بالصعود والتغوّل ببلادنا، والتحكّم بها برهبة صواريخه وعدد مقاتلي وتجربته الفذّة في سورية، التي خرج منها "منتصراً" أيضاً ..

المعضلة الآن أقوى من الثقافة ومن اللسان: إذا كان حزبٌ خارجٌ عن الميثاق والقانون والدستور قد استوطن بيننا. وكان يداً يُمنى لتدخل خارجي جلب لبلادنا الخراب، وقد يمحوها عن الخريطة. وإذا كان زعيم هذا الحزب، حسن نصر الله، يقول عن الإنتخابات المقبلة إنّها "لا شيء" أي أنّ صوتنا "داخلنا" لا يساوي قشرة بصلة، وإنّ "الأكثرية أو الأقلية" التي ستفرزها هذه الانتخابات لن يكون لها "أيّ تأثير" على الموضوع المعقودة عليه، أي سلاح حزب الله، لأنّ موضوع السلاح "أكبر بكثير" أي أنّه سيغلّب الصوت الخارجي، الذي يورد له المال والسلاح، على الصوت الداخلي اللبناني.. إذا كان الحال كذلك، كيف يمكن التخلّص من هذا الشرّ من دون دعم شرّ آخر يوازيه؟ وكيف يمكن ألّا يكون هذا الشرّ خارجياً، فيجاريه؟ وكيف يمكن أن تثمر هذه الحرب، إذا انتصر، من دون أن تُفتح صفحة جديدة من التدخل الخارجي، تشبه سابقتها: الإيرانية التي أسّست منذ أكثر من ثلاثة عقود مليشياتها الموالية، على أساس أنّها تدعم العمل المسلح لتحريرنا من الاحتلال الإسرائيلي؟