حماس وأهل غزّة
تغيّرت ملامح إسرائيل بعد "الطوفان". فقدت حجّة المحرقة، عمودها الفقري، شرعية وجودها؛ ذاك الحدث التاريخي الذي توّج رحلة أوروبية ضد اليهود، اللاسامية. والآن، عبثاً ترفعها ضد كل من ناهض حربها على الفلسطينيين، فالعالم لم يعُد مقتنعاً بهذه الحجّة، بعدما أحرقت غزّة، ومعها الضفة الغربية، بنيران ثأرها من العملية.
وخسرت إسرائيل صورتها في العالم، أو الصورة التي تبعثها إليه؛ من أنها دولة ديمقراطية، ذات جيش أخلاقي، بقوانين ومؤسّسات، وصحافة وتناوب وانتخابات. عشية "الطوفان"، كانت منقسمة على مشروع مصادرة إحدى ركائز هذه الديمقراطية، أي القضاء. واليوم يتمرّغ أنف ديمقراطيتها في التراب. "اليهودية سياسية" تحكمها، أو تتحكّم بها: أحزاب دينية متطرّفة، خَلاصية، بمشروعٍ يتجاوز كل الحدود الصهيونية السابقة. تؤجّج جماعاتها الثأر العسكري ضد أهل غزّة والضفة... وتطاول الإسرائيليين المحتجين على استمرار الحرب بقمعٍ غير مسبوق: بالضرب بالهراوات، بالأحصنة، بالإعتقال. يدير هذا كله وزير الشرطة، إيتمار بن غفير، أحد الزعماء البارزين لـ"اليهودية السياسية"، الذي يوزّع السلاح مجانا على المستوطنين، ليساعدهم على قتل أهل الضفة. ما يُنذر ببداية تشكل مليشيات غير رسمية، سوف تكون مع الوقت قادرةً على توجيه سياسة الدولة بسلاحها، أو بخطر هذا السلاح، أو بـ"الفتنة".
خسرت إسرائيل أيضا الدعم الغربي غير المشروط. موجة شاملة من الاستنكار لجرائمها في غزّة والضفة ضربت استكانتها السابقة. تظاهرات ضد هذه الجرائم، وإعلام يغطّيها، يعلّق، ويحلّل. بعضهم يحاول المواربة، وآخرون يراجعون بدهيات صهيونية راسخة. وشخصيات وإداريون، ومحاكم دولية... ذلك كله تولّد منه رأي عام غربي ضد إسرائيل، أيضا غير مسبوق. ولم يعد مُجديا لها النوم على حرير الحكومات الديمقراطية الغربية "المؤيدة تاريخيا". وصارت هذه الأخيرة متردّدة، متراجعة، عُرْضة للنقد الحاد... فكان تحوّلٌ، تاريخيٌّ أيضا، أحدثه "الطوفان".
خسرت إسرائيل الدعم الغربي غير المشروط. موجة شاملة من الاستنكار لجرائمها في غزّة والضفة ضربت استكانتها السابقة
ثم العزلة الديبلوماسية التي تكاد تكون عالمية، لولا امتناع الإدارة الأميركية عن حسم موقفها الكلامي، المهذّب واللطيف، وتحويله إلى فعل سياسي، بوقف السلاح ضد إسرائيل. ولكن الآلة الديبلوماسية تستكمل خطواتٍ سابقة: اعتراف بدولة فلسطين من أربع دول أوروبية، والوعد بالاعتراف من أخرى، أو تأجيله، أو زيادة عدد الدول المعترِفَة بها في الأمم المتحدة.
وهذا كله توَّجَه الشعب الفلسطيني المنتشر والباقي. وحدة وطنية ثمينة، تتجاوز الانقسام والجغرافيا، وتحسُدهم عليها شعوب أخرى مجاورة. مثل اللبنانيين المنقسمين على الحرب "مشاغَلة" حزب الله إسرائيل، على طبيعة هذه المشاغَلة...
ولكن، أصبح هناك ثمّة "لكن". إسرائيل حوّلت غزّة إلى مكان لا يصلُح للعيش. لا بيت ولا مستشفى ولا فرن... فقط عراء بالقرب من الركام، أو تحته، أو معسكرات اعتقال سرّية، يمارس فيها الجيش الإسرائيلي أبشع الانتهاكات ضد الانسان... إسرائيل أفقدت أهل غزّة الإحساس بمكانهم وزمنهم، مع الجوع والتشرّد والموت بالجملة، وشروط إسرائيلية على المساعدات، وهروب ربع مليون من الغزّيين المتمكّنين إلى أرجاء كلها قاسية.
كلما قتل غزّي، استشرس الجيش الإسرائيلي، كلما انتهك أبسط الحقوق الإنسانية... زادت علامات تحوّل الرأي العام العالمي مع أهل غزّة، وتراكمت النوائب على رأس إسرائيل
اختفى المكان، غزّة، والذين بقوا من أهلها هائمون على وجوههم، راكضون من خيمة إلى أخرى، يتسوَّلون مساعداتٍ تزيد من تأخيرها المجموعات المتطرّفة، تحاصر الشاحنات، تضرب سائقيها، تسرق محتوياتها، أو ترميها على الطريق. ونحن لا نضيف هنا ما حلّ بالضفة الغربية التي استحقّت لقب "غزّة المصغرة".
... فيما "حماس" لا تطلب أكثر من العودة إلى ما كانت عليه غزّة قبل "الطوفان"، مع إضافة مطلب كانت رفعته معه، أي تحرير الأسرى. وعلى الرغم من كثرة الصيغ المتَداولة بين الفرقاء حول شروط إنهاء هذه الحرب، والتي لا نعرف عن كواليسها الكثير... غير أنه يمكن لنا الاستنتاج أن شروط "حماس" لتحرير الرهائن الإسرائيلية تقتصر على عودة غزّة الى ما كانت عليه قبل الطوفان: خروج الجيش الإسرائيلي منها، إعادة الغزّيين إلى "أحيائهم...بيوتهم" (أي أحياء؟ أي بيوت؟)، إطلاق سراح المعتقلين الفلسطينيين، عدم المسّ بسلطتها على غزّة.
في هذه الأثناء، يحصل أمران: الأول، المدّعي العام لمحكمة الجنايات الدولية، كريم خان، يصدر اتهاما ضد إسرائيل و"حماس" بارتكاب جرائم حرب. ويعلن عن طلبه إصدار مذكّرات توقيف بحقّ نتنياهو وغالانت وبحقّ يحيى السنوار، مع اثنين غيره من قادة "حماس". إسرائيل غضبت طبعا، و"حماس" ردّت بالمطالبة بإلغاء هذه المذكرة، وبالاحتجاج على اعتبارها "جلادا"، مثل إسرائيل. وأخيراً، صدر تقرير مشابه من لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، يتهم "حماس" وإسرائيل بالارتكابات نفسها، فكان ذاك المقال الصادر في الصحيفة الأميركية، وول ستريت جورنال، يذكر فيه صاحبه عن رسالة تعزية بعثها السنوار إلى إسماعيل هنيّة، بعدما قتلت إسرائيل ثلاثة من أولاد هنيّة في غزّة. أهم ما جاء فيها أن موت أولئك الأولاد "سينفخ الحياة في شرايين الأمة، ويدفعها نحو المجد والكرامة". وبأن لدى حركة حماس "القدرات الضرورية للاستمرار في الحرب لمدة أشهر بأكملها"، والقتلى الذين يسقطون فيها "تضحياتٌ ضرورية"، وبأن العدد المرتفع من القتلى يزيد من الضغط العالمي على إسرائيل. فانطلقت الألسن الغزّية، بحدّة، وانتشرت بينهم التعليقات وشرائط الفيديو التي تناقش قصة "الضحايا الضرورية" هذه. وتُجادِل: هل كانت "حماس" تتوقّع ردّة الفعل الإسرائيلية هذه؟ إن كان نعم، فعليها تحمّل مسؤولية ردّة الفعل هذه... أن تحمينا في الأنفاق مثلا، أو ترتّب لنا وسائل الصمود، أو الطعام أو السلامة... ساعتها ستكون "التضحيات الضرورية" أقرب إلى البديهي.
في نهاية حرب الإبادة بحقّ أهل غزّة، ستخرج "حماس" أضعف مما كانت عليه قبلها
أما إذا كانت "حماس" لا تعلم بردّة فعل إسرائيل على "الطوفان"، فهذا أشنع. يعني ذلك أن "التضحيات الضرورية" التي ينصح بها السنوار زميله إسماعيل هنية (بحسب "وول ستريت جورنال") ليست سوى قتل لأهل غزّة، والتنصّل من مسؤولية ما وقع على أهلها من نكْبة. خصوصاً أن "حماس" نفسها لم تقم بشيء يثير إعجاب العالم أو تعاطفه معها. الفضل الأساسي لانقلاب أحوال إسرائيل يعود إلى ردّة الفعل الإسرائيلية هذه بالذات. كلما قتل غزّي، استشرس الجيش الإسرائيلي، كلما انتهك أبسط الحقوق الإنسانية... زادت علامات تحوّل الرأي العام العالمي مع أهل غزّة، وتراكمت النوائب على رأس إسرائيل. أي أن أهل غزة منذورون لهذه "الخدمة". هم، في الآن عينه، في أقصى حالات البؤس والهوان، والاستهانة بحيواتهم، وفي قدرة جبّارة على إحداث تعاطف عالمي. وهو تعاطفٌ قد لا يدوم. قد تضجَر منه البشرية، المشغولة بحروبٍ أخرى، قد لا يُحسن الفلسطينيون إدارته، استثمارَه على الوجه غير الابتزازي. بأن لا تسخّر حياتهم وعذاباتهم وخراب ديارهم لنصرة "حماس" المتمسّكة بسلطتها، مثل أي حاكم.
في نهاية حرب الإبادة بحقّ أهل غزّة، ستخرج "حماس" أضعف مما كانت عليه قبلها. وربما تكون غزّة تحت حكم إسرائيلي مباشر، أو لا تكون، فهل الموازين الدولية والإقليمية وحدها التي تقرّر مصيرها؟ هل تكون ثمّة خطة لإعادة إعمارها، في حال انسحاب إسرائيل منها؟ أو عدم الانسحاب؟ وكيف سيُعاد بناؤها في كل واحدةٍ من هاتين الحالتين؟ من سيُديرها؟ وهل سيكون لإعادة إعمارها دورٌ في تحديد أسماء حكّامها الجدد أو القدماء؟ هل ستلتقي "حماس" مع "السلطة الفلسطينية" في الضفة؟ والاثنتان تتصارعان بشدّة؟ وهل يمكن لكل التغيّرات المرتقبة أن تحدُث من دون مشاركة الغزّيين، من دون رأيهم، من دون السؤال عن مصيرهم؟ حاجاتهم؟ بيوتهم، أو ربما خيمهم؟ والأخذ بخاطرهم، بمواساتهم؟