من بين المؤرّخين الإسرائيليين الجُدد يخلع عباءة بني موريس؟

11 يوليو 2024
+ الخط -

في ثمانينيّات القرن الماضي: تفتح إسرائيل أبواب أرشيفها للمؤرّخين، بحسب ما يقتضيه قانونها. يفلح مؤرّخون في مهمّتهم، فيخرجون بدراساتٍ لهذا الأرشيف برؤية جديدة إلى إسرائيل تكسر ذاك الإجماع "الوطني" على براءة نشأتها "من دون أيّ غلطة"، ويؤسّسون روايةً جديدةً عن هذه النشأة، تُعطي للفلسطينيين شيئاً من حقّهم في المظلومية. كان صدى أولئك المؤرّخين قويّاً، ولم يعد ممكنا من بعدهم تجاهل ما ارتكبته العصابات الصهيونية في حقّ الفلسطينيين تسهيلاً لـ"الاستقلال"، أي إقامة إسرائيل.

كانوا أربعة مؤرّخين؛ آفي شليم، أوري هلتسن، إيلان بابيه، وبني موريس. والأخير، بني موريس (اسم شلومو ساند، صاحب كتاب "اختراع الشعب اليهودي"، وهو الكتاب الأشهر لدى القرّاء العرب، لا يدخل زمنياً في قائمة المؤرّخين الجُدد، وإن كان قريباً من مقاربتهم. فكتابه صدر بعد عقدين على ظهور المؤرّخين الأربعة). رائد أولئك الأربعة بكتابه "1948 وما بعد: إسرائيل والفلسطينيين" (1988). وهو يتناول، استناداً إلى الأرشيف أعلاه، عملية طرد فلسطينيين من بلداتهم وقراهم، ويثبت أنّ اقتلاعهم حصل تحت التهديد والقتل والطرد، وحتّى الاغتصاب، بعكس السردية الإسرائيلية القائلة إنّ الفلسطينيين تركوا أرضهم، إمّا إذعانا لزعمائهم، أو خوفاً من خطر غير مفهوم. ما الذي ألهم بني موريس؟

الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982: يؤدّي بني موريس خدمته العسكرية عبر تغطية هذا الغزو لصحيفة جيروزاليم بوست. يرى للمرّة الأولى في حياته مُخيّماً للاجئين الفلسطينيين، مُخيّم الرشيديّة قرب صور. يسألُهم: ماذا أتى بكم إلى هنا؟ فيجيبون أنّ أصلهم من الجليل، وهربوا منذ النكبة. وها هي حياتهم هنا. حكاياتهم مُؤثّرة، تُحدث لديه الرغبة بالإجابة عن سؤال هروب 700 ألف فلسطيني خلال حرب 1947 - 1948، وعن المسؤول عن هذا الهروب، فيكون كتابه المذكور أعلاه.

يرى بني موريس أنّ قيم الإسلام مختلفة غريبة "لا قيمة للحياة فيها، ولا للديموقراطية أو للانفتاح أو للإبداع"

لكن، بني موريس تغير. بدءاً من العام 2000، تزخر كلماته وكتاباته بما يناقض تماماً النتائج التي توصّل إليها في كتابه. المناخ السياسي تبدّل؛ اغتيال إسحق رابين وانتخاب بنيامين نتنياهو وأرييل شارون، دفن عملية السلام نهائياً؛ عمليات استيطان مُكثّفة في الضفّة، خنق الاقتصاد الفلسطيني، اندلاع الانتفاضة الثانية، وعمليات انتحارية في قلب إسرائيل... ترسو بذلك المقولة إنّ "ليس لإسرائيل شركاء"، فتكون المسيرة الفكرية المعاكسة لبني موريس، الذي كان يصوّت لليسار الإسرائيلي، أخذته إخفاقات "كامب ديفيد" إلى الشكّ بما كتبه وفكّر فيه واعتقده. من يومها، بدأت رحلة "ارتداده"، أو "هدايته"، بحسب زاوية نظرك إليها.

عن ديفيد بن غوريون، أوّل رئيس وزراء إسرائيلي، يقول: بني مورس إنّه "تردّد كثيراً... لو لجأ إلى الاقتلاع الشامل، ونظّف البلاد كلّها... لو لجأ إلى طرد تامّ بدل الطرد الجزئي لكان ثبّت دولة إسرائيل لأجيال بأكملها"، حاسماً رأيه في طرد الفلسطينيين من أرضهم وقتها بأنّه ليس جريمة حرب. وعن "العرب الإسرائيليين" كما يُسمّيهم، يقول إنّهم "قنبلة موقوتة"، وإنّ "انزلاقهم الكامل" نحو هويّتهم الفلسطينية حوَّلهم إلى "ممثّلين للأعداء"، وإنّهم "الطابور الخامس" في إسرائيل.

"نحن محكومون بالعيش عبر السيف". بهذه الجملة، يختلف بني موريس عن زملائه الثلاثة، المؤرّخين الجُدد، ويخلص إلى نظرته أنّه لا حلَّ في الأفق، إنّما "جدار من حديد". لا دولتَين ولا دولة واحدة تصلحان في نظره، بل يقترح حلّاً من ثلاث دول في شكل كونفدرالية أردنية فلسطينية. وخلفية هذا "الحلّ" الدين الإسلامي الواحد. يرى أنّ قيم الإسلام مختلفة غريبة "لا قيمة للحياة فيها، ولا للديموقراطية أو للانفتاح أو للإبداع".

وقبل أسبوع، كتب مقالاً في صحيفة هآرتس، يتناول فيه الاشتباك السابق المحدود بين إيران وإسرائيل، يُوبّخ فيه نتنياهو على تردّده المزمن في مهاجمة إيران. يصف أخطار القنبلة النووية الإيرانية قريبة التحقّق، ويستغرب كيف أنّ إيران تدعو بمعيّتها إلى تدمير إسرائيل، ونتنياهو "مُكتّف اليدين". يقارن بين القوّتَين العسكريتَين، الإسرائيلية والإيرانية، ويُسخّف الأخيرة الإيرانية، ويضع الأولى الإسرائيلية في مرتبة الأقوى والأغنى، ويختم بالدعوة إلى إلقاء قنبلة نووية على إيران تخلّصاً من شرها.

هذه عينة من مؤرّخٍ رائدٍ في مجاله انقلب على نفسه، وصار يتكلّم مثل أيّ يميني مُتطرّف. قبل محاولة فهم هذه الانتكاسة الفكرية، أو انعدام التماسك بين قبل وبعد، تجدُر الإشارة إلى أنّ موريس في كتابه المذكور، قبل انزياحه، اكتفى بالأرشيف الرسمي الإسرائيلي، ولم يتطرّق الى أرشيفات أخرى، فلسطينية أو أجنبية، أو حتّى إسرائيلية (كما فعل إيلان بابيه مثلاً). بعد ذلك، صار هناك: بني موريس، ما قبل كتابه، وبني موريس ما بعده، وبالتزامن مع حدثيْن تاريخيَّين. موريس ما قبل: في عام 1988، في عزّ الانتفاضة الأولى السلمية، رفض الخدمة العسكرية في نابلس، لأسبابٍ أيديولوجية، كما بتنا نعلم، لأنّه كان يعتبر أنّ "على إسرائيل أن تنسحب من الأراضي المُحتلّة". وقد دفع ثمن رفضه عقوبةً عسكرية. وقتها، كان الأمل واضحاً لدى الإسرائيليين بأنّ السلام ممكن، وكان كتاب موريس الذي يُعطي حقّاً، ولو جزئياً، للسردية الفلسطينية عن النكبة. أما بعد الكتاب، فانهيار هذا الأمل كان مع انهيار محادثات السلام، واشتعال الانتفاضة الثانية التي اتّسمت بعنف بالغ، قال عنها موريس إنّها عمليات غير معزولة، إنّما تعبّر عن "الإرادة الصلبة للشعب الفلسطيني". ومن وقتها يدوم تراجعه عن كتابه الأول، الذي قاد المؤرّخين الجُدد كما نعلم عنهم.

في الثمانينيّات، كان صدى المؤرّخين الجُدد في إسرائيل قويّاً، ولم يعد ممكناً تجاهل السردية الفلسطينية عن نكبة العام 1948

هل هو انفصام في الشخصية، بين "المواطن" موريس و"المؤرّخ" موريس، كما يكتب زميلُه آري شافيت: "إنّ المواطن موريس والمؤرّخ موريس عملا معاً وكأنّ لا علاقة بينهما، كأنّ الواحد منهما كان يحاول إنقاذ ما كان الآخر يقارع من أجل استئصاله". ويجيب موريس: "بصفتي مؤرّخاً، أؤكّد أنّ ثمّة غلطة (غلطة؟!) ارتكبت". ولكنّه باعتباره يهوديّاً لا مواطناً، يعود ويُكرّر أنّ "عدم اكتمال الترانسفير كان غلطة أيضاً". يضع نفسه على حدّ سكين بين الهويّتين غير المتساويتين. وما ينقذه من مواجهة ضميره، هو انتماؤه إلى جماعته انتماء عضوياً. يقول في حديثة عن هذا الانتماء: "أنا أتماهى مع ألبير كامو (صاحب رواية "الغريب"). كامو يُعتبر يسارياً، وصاحب قيمة أخلاقية عالية. ولكن عندما تكلّم عن المشكلة الجزائرية، وضع أمّته قبل الأخلاق. حماية شعبي أهمّ من المفاهيم الأخلاقية المُجرّدة".

الهُويّة الأساسية هذه، ضامنة للبقاء في قيد الحياة، تُحيلنا على ما يشبهها في لبنان. بدل الهُويّة اليهودية - الإسرائيلية هناك المذاهب الطوائف، لكّل طائفة مؤرّخها. وكلّما انقلب حال طائفة، سلباً أو إيجاباً، صُحّحَت بنود وأُدخلت أخرى. واشتبكت مع تواريخ غيرها، نفتها أو كذّبتها أو عدّلتها، وأحيانا داخل الطائفة الواحدة، فالتاريخ يسير، لصالحها أو لغيره... والمناخ مؤاتٍ أو غير مؤات. ولا كتاب واحدا، إنّما شذرات منه، مبعثرة، مقطَّعة.

نموذج بني موريس موجود بيننا، ولكن في سجيّة أخرى، نجده بأعداد متزايدة هذه الأيام ليساريين يطلقون العنان لإسلامية، لا تختلف زاويتها عن تلك التي يحملها الإسلام السياسي، ولكنّها تتميّز منها بفصاحتها. لم يسألهم أحد، كيف تمّ التحوّل؟ على أيّ حُجّة أو قاعدة أو فكرة؟ والأرجح أنّهم سيجيبون كما فعل بني موريس: "الهوية... الهوية الإسلامية"، هي الدينامو المعلن أو السرّي، الذي يطلق طاقة الانتقال إليها، في أوقات تؤجّجها جرائم إسرائيل.