لا يرحل الرئيس في مصر بالانتخابات
في العالم العربي، وفي القلب منه مصر، أم الدنيا كما يقولون، لا يرحل الرئيس أبدا بالانتخابات التي ينصّ عليها الدستور الخاضع بدوره للتعديل حسب رؤية النظام كما حدث عام 2019، بل يُنظر إليها بوصفها آلية شكلية لتجديد الرئاسة للحاكم، وإدارة المشهد السياسي من السلطة. ولم تفلت من أسر تلك الرؤية الا نسخة 2012 الرئاسية التي جرت في أعقاب ثورة 25 يناير، وجرى الانقلاب على نتائجها فيما بعد، باستغلال الصراع السياسي بين قوى الثورة.
مرّت الأيام الثلاثة للتصويت في الانتخابات المصرية كما توقع المراقبون وفق السيناريو المتخيّل، تمهيدا لإعلان النتيجة التي ينتظرها الجميع، بحلف عبد الفتاح السيسي الرئيس "المنتخب"، في مدّته الجديدة، اليمين الدستورية، التي تبدو طقسا سياسيا أكثر منه التزاما خاضعا للمحاسبة. وسط إشادة من رؤساء مجلسي النواب والشيوخ والإعلام الرسمي بـ"العرس الانتخابي!"، والتأكيد على نسبة التصويت العالية ومبايعة نواب الشعب سياسات الرئيس.
ومن يتابع المشهد سيلمح وقوف أجهزة السلطة وقواها المهيمنة وراء كل قرار، بدءا من إجراءاتها الأولى، نهاية بإعلان النتيجة المنتظر من الهيئة الوطنية للانتخابات، فيا له من مشهد ديمقراطي بديع! وقد أدارت السلطة المشهد منذ البداية، كما تريد، باستبعاد المرشّحين غير المرغوب فيهم من خريطة الترشّح التي بدت محكومة تماما، سواء من تأييد النواب أو توكيلات المواطنين. مع ذلك، حرصت الدولة على تقديم انطباعات مختلفة قليلا عن انتخابات 2014 و2018، بداية بعدد المرشّحين واتجاهاتهم، مرورا بصنع مشهد انتخابي حاشد ومزيّف من الجماهير تمارس حقها في التصويت!، بالرغم من الضائقة الاقتصادية التي يعيشها هؤلاء.
ظهرت مشاهد متنوّعة باستغلال الفقراء باستخدام الرشاوى المالية والغذائية والعينية، لحشدهم للتصويت
وكعادة بلدان العالم الثالث، وقفت كل أجهزة الدولة لدعم الرئيس الذي يتجدّد انتخابه دائما، ففي مصر لا يوجد رئيس سابق، كل الأجهزة وبشكل خاص الوزارات والهيئات والبلديات والقرى مرورا بأحزاب الموالاة، وانتهاء بأجهزة الأمن، والهيئة الوطنية للانتخابات، تجنّد قواها الأساسية لتقوم بدور مرسوم بحرفية عالية والتزام منقطع النظير. تمسك هذه الجهات بإدارة العملية الانتخابية من كل النواحي، ما يجعلها المتحكّم الرئيسي في كل مراحله المختلفة في الترشّح والدعاية والتصويت والفرز وإعلان النتائج. كما هيمنت أيضا تلك الأجهزة على وسائل الإعلام المستقلّة من خلال التهديد بالحجب أو بإحالة مسؤوليها إلى النيابة العامة، وهو ما حدث مع موقعي مدى مصر وصحيح مصر وغيرهما.
واتبعت الدولة عدة تكتيكات أمنية وإدارية في هذه الانتخابات، أهمّها: استخدام كل الأدوات المتاحة لتعبئة الناخبين في حافلات عامة وخاصة، للذهاب إلى التصويت بشكل قسري، أو اختياري، والتي رصدتها وسائل التواصل الاجتماعي... إعلان وزارات الدولة وهيئاتها حالة الطوارئ، بإجبار الموظفين والعاملين فيها على الذهاب للتصويت بجمع بطاقات الرقم القومي، ومجازاة كل من لم ينفّذ هذه التعليمات، والتأكد من ذلك من خلال رؤية الحبر الفوسفوري على أيديهم، كما أجبرت شركات القطاع الخاص على حشد العاملين لديها أيضا. واستخدم هذا الأسلوب مع فئات أخرى، مثل طلاب الجامعات، بإجبارهم على التصويت بشكل جماعي، وإلا فقدوا درجات أعمال السنة الخاصة بهم! ووصل الأمر إلى استيقاف المواطنين في بعض الأماكن، ونقلهم في حافلات للتصويت في لجان الوافدين التي يبدو أنها كانت مدخلا جانبيا للتدخل في العملية الانتخابية. كما ظهرت مشاهد متنوّعة باستغلال الفقراء باستخدام الرشاوى المالية والغذائية والعينية، لحشدهم للتصويت.
سعت تنظيمات في مصر موالية للنظام إلى إبراز تصويت أعضائها، ونشر صور لهم في المواقع الصحافية
وحاولت أجهزة الدولة إجهاض أي مخطّطات للمقاطعة بإبراز خطاب رسمي وإعلامي أن "الانتخابات ليست محسومة سلفا"، ودعوة المصريين إلى التصويت، واستخدام حقوقهم السياسية، في الداخل والخارج، بالإضافة إلى إنتاج الأغاني والإعلانات الدعائية والتي يشارك فيها فنانون واعلاميون للتشجيع على التصويت. ومع ذلك لم تنجح الا عبر وسائل القسر. كما سعت بعض التنظيمات الموالية للنظام، مثل تنسيقية شباب الأحزاب والقوى السياسية، وأمانة الحوار الوطني، إلى إبراز تصويت أعضائها، ونشر صور لهم في المواقع الصحافية، وكأن هناك تعليمات بذلك. كما استخدم أسلوب تهديد المواطنين بفرض غرامة مالية في حال عدم ذهابهم للتصويت. وجهزت أحزاب الموالاة، وفي مقدّمتها "مستقبل وطن"، مئات الأوتوبيسات (الحافلات) لنقل المواطنين إلى اللجان الانتخابية، جبريا أو اختياريا. ومع ذلك، مُنع مندوبو المرشّح فريد زهران من حضور الفرز في اللجان العامة والفرعية، على الرغم من حضور مندوبي المرشّحين الآخرين!
لم تقنع الدولة المصرية الجميع بوجود حدٍّ أدنى من مصداقية العملية الانتخابية، وفشلت في إعطاء شرعية سياسية جديدة للنظام
استخدمت الدولة، إذاً، كل الأدوات الإدارية والأمنية المختلفة، التي تخصّصت فيها منذ السبعينيات، بشكل أعمق وأكثر تنظيما من خلال الإمكانات المالية المفتوحة من رجال الأعمال أو ميزانية الدولة. ولكنها لم تقنع الجميع بوجود حدٍّ أدني من مصداقية العملية الانتخابية، كما فشلت في إعطاء شرعية سياسية جديدة للنظام، بسبب فشله في كل الملفات. ولم تنجح في تحقيق الغرض الأساسي منها، حيث تبنّى قطاع كبير من الرأي العام قناعة بأن ما جرى مجرّد مسرحية توزّعت فيها الأدوار منذ البداية، وكانت نتيجتها محسومة للسيسي. وتركز اهتمام المواطنين في تخمين الترتيب المتوقّع للمرشّحين الثلاثة الباقين (فريد زهران، عبد السند يمامة، حازم عمر) الذين شاركوا في هذه المسرحية وكيفية توزيع الأصوات الموزّعة سلفا عليهم، ومن سيكون الوصيف في هذا المشهد المصطنع... فهل من الممكن التصديق أن تصويتا جارفا للسيسي جرى بالرغم من تردّي الوضع السياسي ومعاناة المواطنين من الفقر وارتفاع الأسعار، بشكل فاق كل إمكاناتهم لمحاولة التأقلم مع هذه الأوضاع. وعجز النظام عن تقديم أي حلول لما يحدث في المذبحة الجارية في غزّة، وإخفاقاته المتوالية في التعامل مع مياه النيل وسد النهضة؟.
لا يمكن وصف ما جرى بأنه مشهد انتخابي حقيقي، ولكنه مصطنع من الألف إلى الياء من أجهزة الدولة، التي كان همّها إخراج مشهد يُسعد الرئيس، ويوحي للرأي العام الدولي والداخلي بأن ثمّة انتخابات نزيهة، وهو ما يتناقض مع الواقع الفعلي، وخصوصا في نسب التصويت المشار إليها التي تحدثت مصادر الهيئة الوطنية للانتخابات عن أنها تصل إلى 45% من الناخبين، فليس هناك إقبال حقيقي على المشاركة، واذا حدث من بعضهم، فهو قبول المضطرّ لا الحر... وهذا في النهاية يمسّ شرعية هذه الانتخابات، وكل ما تتخذه الدولة من قرارات استراتيجية في المستقبل القريب.