لا أريد هذه الصداقة

06 ابريل 2023

(بهرام حاجو)

+ الخط -

كيف أقنعها بأنني لم أعد أريد مزيدا من الأصدقاء، أنا المفتونة دائما بفكرة الصداقة، والتي أعتبرها من أهم أفكار الحياة، وأقدرها على جعلنا نشعر بدفء العلاقات بين البشر؟ كيف أقنعها وأقنع من يعرفني غيرها ويعرف كيف أعتني بصداقاتي، أنني بدأت فعلا أوجز تلك الصداقات، وأعيد فرزها وتصنيفها وتسميتها وتصفيتها في الطريق الأكيد إلى أن أصل بها إلى الندرة والحقيقة معنىً ومبنى؟ كيف تصدّق أنني أشعر بالانتصار، كلما قصرت قائمة صداقاتي بانسحاب أحدهم بعد موقفٍ انكشف فيه؟ كيف أوصل إليها فكرتي أن أجمل الصداقات أقلّها عددا وأعمقها مضمونا؟

قالت لي الفتاة الشابة التي تعرّفت إليها، أخيرا، من طريق منصّة تويتر، إنها تلاحظ كثرة أصدقائي وصديقاتي في تلك المنصّة وغيرها من منصّات التواصل الاجتماعي، وإنها تتمنّى أن تحظى بمثلهم وهي تخوض تجاربها في الحياة.

سأستخدم في بقية المقال اللفظة المذكّرة للصديق باعتبارها لفظة عامة وحسب، تنطبق على الذكر والأنثى إن كان الحديث عنهما، وحتى لا يبدو الحديث عن الصديق بالصيغة المؤنّثة وكأنه تخصيص لها بما أريد التعبير عنه هنا.

قلت للفتاة المدهوشة إنهم ليسوا أصدقاء، وحتى ونحن نبتذل الوصف لنتجاوز فيه معانيه الحقيقية ونصفهم بها، ونصف كل معارفنا الجميلة بذلك الوصف تقديرا وتوقيرا ومجاملةً في أحيان كثيرة، فلماذا يمكن أن يكون للمرء هذا العدد الكبير من الأصدقاء في حياته، لأنه ببساطة لا يقدر على مستلزماته أولاً، ولأنه يخلق وضعا مربكا في الحياة ذلك أنه غير حقيقي، ولا تنطبق عليه مواصفاتُ الصداقة الحقيقية.

وبعيدا عن هؤلاء الذين يحيطوننا باهتمامهم وتقديرهم، وأحيانا إعجابهم بما يعرفونه عنّا، وهو قليل جدا نسبيا، وبما يمكنهم أن يبدوه من مشاعر وعواطف تجاهنا، وهي محدودةٌ بحكم العلنية العامة في وضع منصّات التواصل الاجتماعي، هناك آخرون أيضا يشبهونهم في درجة علاقاتهم بنا. قد يكونون مقرّبين ويعرفون عنا الكثير، ونعرف عنهم كذلك الكثير، ونبادلهم الشعور بالارتياح والإعجاب والاحترام، وتسود بيننا المجاملات اللطيفة، ونتبادل التهاني في الأعياد والمناسبات، ويتأسّى بعضنا لبعض في كثير من مواقفنا الصعبة. لكن هذا كل شيء، وهو جيد، لكنه ليس صداقة.

الصداقة أبعد وأعلى من ذلك بكثير. أعلى من القرب، وأغلى من الحب. ولهذا، ينبغي أن نحرص، قدر استطاعتنا، على التخفّف من كل ما يشبهها، فنعيدُه إلى مكانه الحقيقي ومكانته المستحقّة وتوصيفه الصحيح. وعلينا ألا نخشى من وحشة القلب في غياب الآخرين ممن كنّا نضعهم في جانب الصداقات، فأصبحوا بعيدين عن الصفة والوصف بعد ذلك.

ليس صديقا من يجعلك تضعه في اختبارٍ ما لمعرفة حجم إخلاصه لك، حتى وإن نجح في ذلك الاختبار. وليس صديقا من يجعلك تقارنه بالآخرين حولك، فيبدو صغيرا قليلا. وليس صديقا من يًحصي عليك عطاءه على مر السنين، وينسى ما أخذ منك. وليس صديقا من يخذلك، وهو قادرٌ على ألا يفعل. وليس صديقا من يحسب المسافة بينكما بالمسطرة والقلم، خشيةً من أية مساءلة محتومة له من الآخرين. وليس صديقا من لا يمضى معك في معاركك الحقيقية مؤمنا بها وبك. وليس صديقا من يتجاوز حدود الصداقة، ليعتبرها درعه الحامي ضد أي خطأ. وليس صديقا من يُؤذي روحك اتكاء على حجم مكانته في قلبك وفي سبيل تحصيل مزيدٍ منها.

لطالما آمنتُ بالصداقة باعتبارها أجمل علاقةٍ يُمكن أن تربط بين البشر، فهي اختيارية وحرّة وغير مشروطة، وعليها أن تبقى هكذا دائما أو أن تذهب مع الريح غير مأسوفٍ عليها.

 

CC19B886-294F-4B85-8006-BA02338302F0
سعدية مفرح

شاعرة وكاتبة وصحفية كويتية، من مجموعاتها الشعرية "ليل مشغول بالفتنة" و"مجرد امرأة مستلقية"، ولها مؤلفات نقدية وكتب للأطفال. فازت بعدة جوائز، وشاركت في مهرجانات ومؤتمرات عدة.