كيس ملاكمة
صورةٌ مُحزنةٌ ظهر فيها البرلمان العراقي في جلسة اختيار رئيس جديد يخلف محمد الحلبوسي المُستقيل، التي استمرّت حتّى وقت متأخر من يوم السبت الماضي (18 مايو/ أيار الحالي)، إذ انتهت باللكمات والشتائم المتبادلة، من دون أن ينجح أعضاء الكتل البرلمانية، مرّة أُخرى، في اختيار شخصية لأعلى منصبٍ سياسيّ للسنّة العرب في العراق.
ما سوى اللكمات والشتائم، هناك أكثر من جانب مُؤسف، إذ يشعر متابعون عديدون بأنّ هذا المنصب لم يعد شأناً سنّياً، وإنّما تتحكّم الكتل الشيعية الكبرى فيه، فالخلاف الجديد هو أصلاً بين كتلتيْن شيعيتيْن تدعم كلُّ واحدة منهما مُرشَّحها "السنّي" المُفضّل. كما أنّ استقالة الرئيس السابق (أو دفعه إلى الاستقالة) لم تكن لمُجرّد أنّه خالف مهامّ منصبه، وإنّما لأنّه خرج عن حدود ما هو مطلوبٌ منه، وفق ما تراه الكتل الشيعية الكُبرى. يجرى هذا في وقت يُطلق أعضاءٌ من الكتل السياسية الشيعية تصريحاتٍ طائفية في وسائل التواصل الاجتماعي أو في اللقاءات التلفزيونية، تستفزّ السنّة، كما يخرُج زعماءٌ سياسيون كبار ليطالبوا بسنّ قانون لجعل مناسبةٍ شيعيةٍ عيداً وطنياً عاماً، من دون أن يفهم أحدٌ المصلحة من تعميمه على كلّ العراقيين، وبينهم من لا يؤمن بهذا العيد أصلاً. وهل يمنع شيءٌ مَنْ يؤمن في هذه المناسبة من أن يحتفل بها، في عراق اليوم، من دون جعلها عيداً وطنياً؟... من الواضح أنّ الكيانات السياسية الشيعية صارت تستعمل السنّة وشؤونهم بما يشبه كيس ملاكمة، فبدلاً من توجيه ضرباتٍ مباشرة للخصم يُستهدف الكيس، ويَفهم الخصم أنّ الضربة مُوجّهة له، فيردّ بلكمة مضادّة، ولكن، إلى الكيس نفسه.
كلّ التصريحات الطائفية، من كلا الفريقيْن الشيعييْن، لا تستهدف السنّة فعلياً. وقد تكون هذه الجملة غامضة لأوّل وهلة، ولكن، علينا أن نفهم أنّه لا يوجد صراع طائفي في العراق، اليوم، بالمعنى الذي كانت عليه الأوضاع في 2005-2007 أو خلال الحرب مع "داعش". وكلّ المساحة من الحرّية، التي كان يتحرّك فيها السياسيون السنّة سابقاً، التي تمنحهم شيئاً من الندّية مع شركائهم الشيعة والكرد وغيرهم، تقلّصت تدريجياً، إلى أن غدت غير مرئية، فالسياسيون السنّة الحاليون هم المَرْضِيّ عنهم شيعياً فحسب. ولا يوجد سياسيٌّ سنّيٌّ واحدٌ قادرٌ على معارضة كلّ المنهج الذي تعمل به القوى الشيعية في إدارة الدولة.
لهذا، اللكمات المُوجّهة إليهم، بوصفهم سياسيين، كما حصل في جلسة البرلمان الأخيرة، أو إلى حاضنتهم الاجتماعية، ومتبنّياتهم الثقافية والاجتماعية، لا يردّ عليها أحد. ويعرف السياسي الشيعي أنّه لن يتلقّى ردّاً عليها من الطرف السنّي، ولهذا يراها منطقةً "آمنةً" للصراع، في المزايدة مع خصمه الشيعي. هذا واقع صنعته ظروف ومعطيات متراكمة خلال العشرين سنة الماضية، وليس وليد اللحظة، ساهمت الطبقة السياسية السنّية نفسها في صنعه، بكلّ أخطائها وإخفاقاتها، وربّما تعلّم الجيل الجديد من السياسيين السنّة عدم الانجرار إلى المناكفات الطائفية، أو الخضوع لقِوَى الأمر الواقع، وأن يُركّزوا على خدمة أبناءِ مُدُنِهم ومحافظاتهم.
ويمكن لأيّ مراقبٍ أن يتفهّم هذه المعطيات، ولكن هناك خسارة واضحة، ليست بالضرورة للسنّة مكوّناً اجتماعياً أو طبقة سياسية، وإنّما للعراق ولفكرة التنوّع، ولفكرة الشراكة الحقيقية بين جميع الفئات. إنّ قدرة جميع الفئات والجماعات العراقية على المشاركة في صنع القرار، والرّقابة على تنقية الفضاء الوطني العام من خطابات الكراهية والعنصرية، ضروريّةٌ لترسيخ الدولة، وألا تكون المؤسّسات التشريعية سبباً في بثّ الاضطراب في الشارع العراقي. انفراد طرف واحد في الكلام أو الدعوة إلى تشريعاتٍ ذات نَفَسٍ طائفيّ، سيدفع العملية السياسية، أكثر فأكثر، نحو الابتذال، ويضعف شرعية النظام السياسي بالمُجمل، ويَحْرِف بوصلة المسؤوليات التشريعية والتنفيذية عن المهام التي يجب أن تقوم بها إلى مُجرّد مَسرَحٍ للشعارات، والخطابات الانفعالية، واللكمات المعروضة على الجمهور العام.