بؤس منطق العزلة
تداول سياسيون وصحافيون عراقيون، في أكثر من مناسبة، خلال السنوات الماضية، فكرةً أساسيةً تبدو بدهيةً، أن أميركا في العراق راحلة، ولكن إيران باقية بحكم الجوار الجغرافي والعلاقات التاريخية. ...وفي الحقيقة، دول الجوار العراقي كلّها باقية ولن ترحل، وستبقى تتبادل التأثير مع العراق، خيراً أو شرّاً. وفي الصورة الأوسع، سيبقى العراق جزءاً من المنطقة يتفاعل معها ومع الأحداث التي تجري فيها، يأخذ ويعطي، وليس الأمر محصوراً بإيران فحسب.
أمّا عن رحيل أميركا من العراق، فالكلام يبقى ضبابياً وغير محدّد، فما هي حدود "الوجود" الأميركي في العراق، الذي يجب أن يغادر؟ ... لقد غادرت القوات الأميركية العراق في 18 ديسمبر/ كانون الأول 2011، ثمّ عادت بشكل محدود في الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) بعد يونيو/ حزيران 2014، وما تبقّى من قوّاتها في العراق موجود باتفاق مع الحكومات العراقية المتعاقبة، كما هو معروف.
وبشكل عام، حتى لو غادر هؤلاء، أميركا باقية في المنطقة وقادرة على التأثير في الداخل العراقي بأكثر من صيغة، لا بالتأثير العسكري فحسب، ويعرف الجميع أنها تحمي أموال مبيعات النفط العراقي من الدائنين الدوليين، وهي حاضرة في أكثر من مفصل استخباراتي وأمني عراقي. المشكلة الأعمق أن هذه الأطراف السياسية العراقية المقرّبة من إيران، التي تبشّر برحيل أميركا منذ عشر سنوات، وتخرج علينا كلّ يوم لتمنحنا موعداً جديداً، مضطرّة للتعامل مع عالم متداخل من التأثير والنفوذ الأميركيين، فلدى غالبية دول المنطقة (ما عدا إيران) علاقات وثيقة مع أميركا، فضلاً عن الاتحاد الأوروبي، وحتى الصين، فعلى الرغم من التنافس الاقتصادي الخفي، فهي شريك أساس لأميركا، ويدار التنافس بين القطبَين الكبيرَين بحذر شديد.
منطق العزلة الذي يُراد فرضه على العراقيين، وأن يكونوا في حالة ارتياب دائمة من العالم كلّه (ما عدا إيران)، دخل في السنوات الماضية في مأزق كبير، فضرورات الانفتاح الاقتصادي والثقافي والاعلامي على دول المنطقة العربية اصطدمت بمنطق العزلة، ولعلّ أبرزها كان في بطولة كأس الخليج 24، التي أُجريت العام الماضي (6 - 19 يناير/ كانون الثاني 2023)، فاكتشف عراقيون كثيرون تلك الطبقة الخليجية في شخصية المواطن العراقي، البصري والجنوبي تحديداً، حيث تتداخل العشائر والقبائل مع منطقة الجزيرة والخليج العربي، والتشابه الكبير في اللهجة والسحنة والتقاليد الاجتماعية. وليس جديدها أخيراً مباراة منتخبي العراق والأردن لكرة القدم، ضمن تصفيات كأس العالم، في ملعب جذع النخلة في البصرة الأسبوع الماضي، إذ واجهت استضافة الفريق وطاقم التشجيع الأردني منطق العزلة ذاته الذي يتبنّاه بعضهم، الذي يغلّف الأردن كلّها في صورة نمطية مختزلة مليئة بالكراهية. لكن المباراة سارت بشكل طبيعي، وعاش المشجّعون الأردنيون أجواءً إيجابية في معقل الجنوب العراقي.
من جانب آخر، لا يعني الموقف النقدي ضدّ منطق العزلة تغذية القطيعة والكراهية ضدّ إيران، فهو منطق عزلة آخر مضاد. الزائر والمتجوّل في البلدان المجاورة للعراق سيرى فيها كلّها أطيافاً من التداخلات الثقافية والاجتماعية، بل في هذه البلدان كيانات اجتماعية مشابهة لمثيلاتها في العراق، كما هو الحال في توزّع الكرد بين العراق وإيران وتركيا وسورية، والصلات القويّة بين هذه المجموعات الكردية.
انتشر قبل سنتين مقطع على مواقع التواصل الاجتماعي لشبّان يغنّون باللهجة العراقية مع ضربات دفّ، وفوجئ بعضهم حين علموا أنهم شبّان من دير الزور، لأن لهجتهم تشبه تماماً لهجات الموصل والأنبار. وانتشر في الأسبوع الماضي مقطع لفرقة موسيقية شعبية إيرانية تغنّي باللهجة العراقية، وفوجئ بعضٌ حين علموا أنها فرقة من عرب الأحواز، المتماثلين تماماً مع عرب محافظي ميسان والبصرة. وبسبب شهرة هذه الفرقة تتجوّل هذه الأيام في مدن العراق لتقيم حفلاتها الخاصّة.
تدير الدول اختلافاتها داخل ساحة السياسة، والسياسة نسبية ومتقلّبة، فليس فيها أعداء أو أصدقاء دائمون، أمّا الساحة الثقافية والاجتماعية فيفترض أن تتخلّص من العنصريات والكراهيات، وتعترف بحقائق الجغرافيا والتاريخ، وتحاول أن تستثمر فيها لما فيه مصلحة البلدان المتجاورة، ولدعم الاستقرار والسلام.