كوهين يلهو بالمعارضة والسلطة معًا
في متاهة ما تسمّى مناهضة الانقلاب، ثمّة أشياء محترمة تسقط وقيم مستقرة تُنتهك، بحجّة أن كل الأسلحة مشروعة في محاربة السلطة المستبدّة في مصر، حتى لو كانت هذه الأسلحة صهيونية، أو صنعت في إسرائيل.
المقصود هنا بالطبع الأسلحة المعلوماتية، التي يُلقي بها صهاينةٌ منتشرون على مواقع التواصل الاجتماعي، فيتلقّاها عربٌ ومصريون فرحين بها، وكأنها هدايا معتبرة في المعركة ضد الاستبداد.
بطفولةٍ ساذجة، يلتقط بعضهم ما يتساقط من المغرّدين الصهاينة أو يُسقطونه عمدًا، كما كانت طائراتهم تفعل في أوقات الحروب، وترمي بألعاب أطفال وأقلام ملونة على مدارس الصغار فيتلقفها التلاميذ، ثم سرعان ما تنفجر في وجوههم، كونها ألغامًا وقنابل مصنوعة لهذا الغرض.
كانت قناة السويس موضوعًا لهدايا الصهيوني المسمومة، من خلال نشر ما اعتبرها بعضُهم وثيقةً قانونيةً تثبت منح النظام المصري امتيازًا مدة 99 عامًا لصهاينة بشأن إدارة القناة وتشغيلها، بينما هي مجرّد أوراق مصنوعة بمهارة تشبه تصنيع القنابل على هيئة حلوى وأقلام ولعب أطفال.
المدهش في المسألة أن ناشري هذه الأوراق يتّخذون من معلقٍ صهيونيٍّ متغلغلٍ في عالم "السوشيال ميديا" حجًة ودليلًا على صحّة ما يقولون، بل ويدخلون معه في حوارٍ وكأنهم في خندقٍ واحد ضد انقلابٍ يمد جذوره في تربة التطبيع ويتغذّى عليه ويتمدّد.
ما يثير الدهشة أكثر أن يستعين بعضهم بأدوات صهيونية لمناهضة سلطةٍ موصومةٍ بالتطبيع والتصهين، فتكون المحصلة سباقًا على من يتصهيّن أكثر، لينتهي الأمر بأن كلًا من السلطة وما تسمى المعارضة يستندان إلى الدعم الصهيوني في مواجهة أحدهما الآخر.
في قاع المسخرة المصرية، لا يخجل بعضهم من تبادل الهدايا مع الصهيوني الأشهر في الفضاء الإلكتروني العربي، إيدي كوهين، فتجد من يجري استطلاعًا إلكترونيًا على من الأفضل لحكم مصر: السيسي أم كوهين الإسرائيلي، ثم يعلن بسعادة أن الجمهور منح الصهيوني أصواتًا أكثر من الجنرال الذي فضله الصهاينة أنفسهم.
تجد كذلك احتفاءً من معارض مصري بما ينشره الصهيوني كوهين، فيردّ عليه الأخير بأن يمنحه لقب "رئيس المعارضة"، فيعيد الأول نشر كلام كوهين المتضمّن اعتماده رئيسًا للمعارضة وكأنه فتح عظيم.
تصل المسخرة ذروتها حين يتصور أحدهم أن الطريق لإسقاط سلطة الانقلاب يتطلب أن تقدم المعارضة نفسها بديلًا أقل كلفة وأكثر طواعية للأطراف الإقليمية، فتقرأ على سبيل المثال خبرًا يقول إن رئيس ما يسمّى اتحاد القوى الوطنية المصرية تقدّم بمبادرة تمدّ من خلالها المعارضة أيديها لكل الأطراف الإقليمية، بغض النظر عن أي إشكاليات وعن مواقف أيديولوجية وعن حسابات لها علاقة بمواقف خلال السنوات العشر الماضية. .. "نحن نمدّ أيدينا بنوايا مخلصة وبقلوب منفتحة للإقليم لنطوي صفحة الماضي بكل مراراته وعليهم أن يفعلوا نفس الشيء".
بالطبع، هذا الإقليم الذي تمد المعارضة يدها إليه يشمل الكيان الصهيوني، إذ لم تشر ما تسمّى المبادرة إلى أن المستهدف بها الدول العربية الشقيقة فقط، إذ من الواضح أن الأمر شرق أوسطي تمامًا، وهو خطابٌ لا يختلف في منطلقاته ومراميه عما يطرحه خطاب السلطة التي يعارضونها.
لا تهم الأسماء هنا، بقدر ما يشغلني هو هذا الاعتياد الصامت على التطبيع الناعم، وتصدير هذه الحالة باعتبارها جهدًا وطنيًا وثوريًا عظيمًا، فيقولون لك، كالعادة، هي اجتهاداتنا ومبادراتنا فماذا لديكم؟ وهذا حقّهم الذي لا يصادره أحد، غير أن هذه الأطروحات المعوجة تبقى أمرا يخصّ أصحابها فقط، ولا تمثل عموم الجماعة الوطنية المصرية، والتي أزعم أنها لا تزال تحافظ على قيمها ومحدّداتها الأساسية، التاريخية والجغرافية والثقافية، ولا تزال تسمّي الاحتلال احتلالًا والعدو عدوًا، وليس طرفًا من أطراف الإقليم تمد له يدها في استجداء.
قلت سابقًا، ولن أملّ التكرار إن من المثير للسخرية أن يتصوّر منبر عربي أنه يمكنه محاربة التطبيع بمزيد من التطبيع، مثلما حدث من قبل، حين استضاف إعلامي مصري على شاشة "الجزيرة مباشر" وجهًا صهيونيًا، مثل إيدي كوهين، لكي يكشف أسرار وخبايا زيارة تطبيعية قام بها إعلامي مصري آخر منذ سنوات، وهو يحسب أنه يُحسن صنعًا أو يفضح المطبّعين، ذلك أنه هنا كمن ينهى عن شيءٍ ويفعل أسوأ منه، حين تتحوّل الحكاية إلى مبارزة، أو مغايظة، يرتكب فيها الطرفان الخطأ ذاته، ولا يخرُج فائزًا من تلك المعركة إلا الصهيوني، الذي يجد نفسه شاهدًا وحكمًا بين متعاركين عربيين، في مناظرةٍ مفروضةٍ على ملايين المشاهدين العرب.