كذّاب يحاضر في فضائل الصدق

30 يوليو 2024
+ الخط -

لكثرة ألاعيب بنيامين نتنياهو، وفرط خدائعه، وطول باعه في فنون الدجل والمراوغة، درج السياسيون والإعلام في دولة الاحتلال على تسميته "الكذّاب رقم واحد"، وصاروا ينعتون المُرتشي، المُعلّقة في رقبته ثلاث تُهم جنائية، بالمُتهرّب من العدالة، ويقولون عنه إنّه يكذب كما يتنفس، ما جعل أكثريتهم الكاثرة تسقط عنه ألقاب الساحر والملك والداهية، المُحبّبة إلى قلبه، وتستبدل بها صفات المُتعجرِف المُصاب بجنون العظمة، والديماغوجي المُنقطع عن الواقع، حتّى إنّ المستوطن العتيد من "كريات أربع"، بتسلئيل سموتريتش، وزير مالية نتنياهو وحليفه، وصف وليّ نعمته ذات مناسبة بأنّه "الكذّاب ابن الكذّاب".
لذلك، لن تحفل هذه المقاربة بمضمون الخطاب الرابع، الذي ألقاه المُهرّج بنيامين نتنياهو أمام الكونغرس، وظهر فيه بمظهر كذّاب يُحاضر في فضائل الصدق، بعد أن تولّت الصحافتان العبرية الأميركية فضحَه وتسخيفَه، وإنّما ستضيء هذه المطالعة الصورة الكلّية لهذا الخطاب من الخارج، تلك الصورة التي تخصّ المُخاطبين، المُشرِّعين الأميركيين، الذين يشبهون الكذّاب الأشرّ من أوجه عدّة، كلّها مُثيرة للدهشة، فبدا هؤلاء النوّاب والشيوخ المأخوذون بأداء الممثّل البارع في مسرحية من فصل واحد، ممّن وقفوا إعجاباً، وصفّقوا له 53 مرّة، أبعد ما يكونون منزلةً عن مصاف النُخبة الأميركية، بدوا أقرب ما يكونون من وضع قطيع نعاج يهشّ عليها نتنياهو بعصاه الغليظة.
كان طيّباً للغاية أن يقاطع أزيد من مائة عضو في الكونغرس خطاب الكذّاب ابن الكذّاب (على حد قول سموتريتش) وكانت هذه المقاطعة اللامسبوقة بهذا العدد دليلاً قاطعاً على أنّ الإجماع الذي كان لم يعد قائماً، إن لم نقل إنّ غياب هؤلاء الديمقراطيين عن تلك الجلسة، بمن فيهم المُرشّحة للرئاسة كامالا هاريس، يُمثّل في حدّ ذاته أحد أكثر المُؤشّرات أهميّة، الدالّة على أن تحوّلاً عظيم الشأن يصعد ويتّسع، ويَعِدُ بما يستحقّ عقد الرهان، وأنّ هذا التغيّر المثير للاستحسان والثناء لم يعد أمراً عابراً لا يُعتدّ به ولا يُعوَّل عليه، بعد أن انتقلت الاحتجاجات من الشارع الغاضب الملتاع من هول مشاهد حرب الإبادة، إلى فضاء كُبريات الجامعات الأميركية، ثمّ الأوروبية، وها هو اليوم يُعبِّر عن نفسه بصورةٍ تفوق التوقّعات، وتتواصل على نحو لم يخطر في البال من قبل.
غير أنّ الصورة الإيجابية هذه، التي عبّرت عن بدايات هذا التحوّل الجاري بعد في مخاض عسير، وفق ما عكسته مقاطعةُ عددٍ من الأعضاء الديمقراطيين والتقدّميين في الكونغرس، ناهيك بالمظاهرات العارمة حول "الكابيتول هيل"، نقول إنّ هذا كلّه، وذاك، لم يُبدّد الانطباعات المتكوّنة لدى المُراقبين المصدومين من هذا النفاق السياسي الشائن كلّه لمجرم حرب يُطالب المُدَّعي العام لمحكمة الجنايات الدولية إصدار مُذكّرة توقيف في حقّه، ولا يتساوق مع القيم والمُثل العليا والمبادئ التي ترفرف أَعلامها عالياً في سماء الدولة العظمى، إذ يبدو أنّ أميركا، بهذه الازدواجية بين القول والفعل، تقول لنا بملء الفم: لا تصدّقونا بعد اليوم.
لقد بدت مشاهد الوقوف والقعود والتسحيج (53 مرّة في 50 دقيقة)، وما رافقها من طقوس رياء رديئة، ومزايدات صفيقة، لإظهار مدى الولاء للصهيونية، سيّما من مموّلي حملات المُرشّحين في الانتخابات الوشيكة، أقرب ما تكون إلى حفلة تهريج عجيبة، قادها كبير المهرجين المُعجب بنفسه، الأمر الذي بدا معه بيت الديمقراطية والدستور والقانون وحقوق الإنسان لا صلة حقيقية له بهذه المبادئ والمُثل الرفيعة كلّها، التي يقوم الكونغرس ظاهرياً على حمايتها، والدفاع عنها، في داخل أميركا وخارجها، ويغمض عينيه عندما يتعلّق الأمر بدولة الاحتلال والإجرام، بما في ذلك الموقف من قرارات المحاكم الدولية إذا "خرجت عن النصّ"، وطالبت حكومة اليمين الفاشي بوقف حرب الإبادة الجماعية.
ومع ذلك كلّه، ورغم هذه الصورة المشوّهة، التي بدا عليها الكونغرس في جلسة نفاق مشهودة، إلّا أنّ هناك ما يدعو إلى قدر غير قليل من التفاؤل حيال الصورة الأميركية الأشمل، بما تنطوي عليه من مُتغيّرات حثيثة، وما تَعِدُ به من تحوّلات تعاكس رياحها أشرعة سفينة دولة الاحتلال المُتهالكة، وقد تشتدّ زخماً بمرور الوقت، الذي أخذ، بعد لأي شديد، يلعب لصالح قضية شعب عرف كيف يدافع عن نفسه ببسالة، وكيف يدخل برشاقة إلى ساحة ملعب كبير، كان الدخول إليه حكراً على أعدائه، يصولون فيه ويجولون وحدهم، ويسدّدون كُراتهم إلى مرمى لا حارس فيه، ودائماً بلا حَكَمٍ، ولا جمهورِ مُتفرّجين في أغلب الأحيان.

45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
عيسى الشعيبي

كاتب وصحافي من الأردن

عيسى الشعيبي