فاتن حمامة بنسخة غزّية

16 يوليو 2024
+ الخط -

من بين أكثر الأدوار التي ادّتها فاتن حمامة ببراعة واتقان، ضمن سلسلة طويلة من التُحَف السينمائية الكلاسيكية، دورها في فيلم "أفواه وأرانب"، الذي أخرجه هنري بركات عام 1977. ومن بين أبلغ مشاهد ذلك الفيلم مشهدَ المرأة الفقيرة الكسيرة المطرودة المولولة أمام بوابة "عزبة" إقطاعي شابّ وسيم، بعد أن صرفها ناظر العزبة من العمل بقسوة، لمناكفتها، أو ربّما لاتّقاء خطر انتقال روح التمرّد لديها إلى فريق العاملات من حولها، فوجدت هذه المسكينة نفسها مُشرّدةً بلا وظيفة وبلا مأوى، فزعةً مهانةً، تندُب سوء حظّها، تعفر التراب وتُحدّث نفسها قائلة، بحرقة امرأة خسرت كلّ شيء وهوت تحتها الأرض، "أروح فين؟".
شاهدتُ الفيلم في حينه، وبقيتُ أواظب على مشاهدته كلّما صادفته على الشاشة المنزلية، ظلّ ذلك المشهد الجارح عالقاً في الذاكرة، إذ كنت كلّما وقعت على الشريط الطويل الجميل أتابع العرض، ولا أشيح ناظري عنه، إلى أن يأتي ذلك المشهد الميلودرامي المثير للشجن، فأتوقف حابساً دمعتَين مالحتَين، وأنسحب على الفور لمداراة انفعالي الأبوي المُعيب أمام البنات والأولاد الصغار، ثمّ انخرطتُ لاحقاً في اهتمامات وهموم عديدة، فيما كفّت قنوات الترفيه والمنوّعات عن عرضه لصالح أفلام تواكب أفضليات جيل جديد لم يعد يميل إلى هذا النوع من الدراما السينمائية.
كان ذلك المشهد يرمز، وفق ما فهمته، إلى حكايات كثيرة مُماثلة، ووقائع صغيرة مشابهة بلا حصر، تجري في مختلف الأرياف والأمصار لنساء شابّات يجدن أنفسهن في غمضة عين والتفاتتها، بلا معيل ولا عائلة ولا سقف بيت ولا سند، نساء مقطوعات متروكات ومخذولات، كأنّ الواحدة منهن غصن شجرة قصفته ريح عاتية وألقت به في قارعة طريق موحش مُترب ومسدود. نساء بائسات مُهمّشات ناشفات الريق ومُعدَمات يملأهنّ الهمّ والغمّ والترك والخذلان. نساء حائرات شاكيات باكيات، بلا حول ولا مضارع ولا غد، يعشن في هامش الهامش، منسيّات مكلومات مُصادَرات، مُكرَهات على الإقامة في اللامكان، والتواري بعيداً عن الأنظار.
هذا المشهد الذي ظلّ في تلافيف ذاكرة تراكمت فيها آلام لا تُحصى وأحزان لا تُعدّ، تقدّم من موضعه القصي فجأة، تجدّد في البال بمضاء أشدّ من ذي قبل، وأخذ موقعه الصادم بين المشاهد الراعفات من غزّة، إذ داهمني شعورٌ دافق عاصف قامت فيه سيّدة الشاشة العربية من لحدها، دخلت معبر رفح على ظهر عربة في قافلة مساعدات، وحطّت عصاها في خانيونس أو جباليا، لشدّ أزر الغزّيات، أُمَّهات يوسف وهند وآدم، للتضامن مع عشرات آلاف النساء اللواتي وقفت إحداهن وقفة فاتن حمامة ذات لحظة مشابهة أمام العزبة، وأعادت، في خضمّ الموت الزؤام والجوع والحصار والحرمان، تلاوة نصّ تلك العبارة الحارقة اللاذعة، بلهجة فلسطينية دارجة "وين بدنا نروح؟".
كانت تلك المرأة الشابة من القطاع الغاصّ بالبؤس والبأس، تحمل بين ذراعيها المُنهكين طفلاً صغيراً تدور به من مكان غير آمن إلى مكان مثله، وصادف أن قابلها مُراسِلٌ من الصحافيين الشجعان، الباقين، فقالت أمامه العبارة الرائجة هذه الآونة على ألسنة الأُمّهات الصامدات تحت قصف المُغيرات صُبحاً وظُهراً وفي كلّ وقت: "وين بِدنا نروح"، فبدت لي هذه السيّدة القويّة، وهي تُمسك نفسها عن البوح بما لا يقال في ساعة الشدّة، وكأنّها نسخة مُنقّحة، أو ربما طبق الأصل، من السيدة فاتن حمامة، صاحبة القول الحائر الهائم في السديم بعد، المحفوظ عن ظهر قلب لدى النساء المخذولات المُستلَبات كلّهن، يجلجل حين تنهار عوالمهن الصغيرة، ويكتوين بجمر النسء والقهر والفقر والغدر.
وما دام الشيء بالشيء يذكر، لا بأس من إشارة إلى أنّ أكثر التعبيرات الرائجة في خطاب الأُمّهات والآباء الغزّيين، في هذه الآونة المتراوحة بين حديّ الحياة والموت، ذلك القول الصادر بتلقائية مُفرطة، وكأنّه تعليق سريع على كلّ خَطْب، ألا وهو "حسبنا الله ونعم الوكيل"، إلى جانب تعبيرات تحدٍ عُرف بها أهل القطاع الباسل مثل "مش طالعين، هم اللي يطلعوا، أنا من داري مش طالعة"، وغير ذلك كثير ممّا بات في مقام النصوص والمأثورات الشعبية الخالدة، الأمر الذي يُشيع لدينا، نحن المُشفِقين على النساء والأطفال والرجال، من هول ما يتعرّضون له من أهوال، قدراً كبيراً من الثقة بأنّ فجر غزّة صار قاب قوسين رغم هذا الظلام كلّه، وأنّ صبح فلسطين آتٍ بلا ريب مهما طال المطال.

45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
عيسى الشعيبي

كاتب وصحافي من الأردن

عيسى الشعيبي