الحرب المفتوحة قدرٌ لا رادّ له

09 يوليو 2024
+ الخط -

نحن الآن في صيف شرق أوسطيّ بالغ السخونة والخطورة والصعوبة، إذ تجفّ الأعشاب في الحقول، وتنضج الثمار في الكروم، وتتدافع الذكريات الأليمة عن حروب سابقة نشبت في الصيف. وعلاوة على ارتفاع درجات الحرارة في هذا الموسم الطويل، ترتفع أيضاً سقوف التوقّعات والاستدراكات والهواجس بحدوث ما لا تُحمد عُقباه، ليس في حالة الطقس والأنواء، وإنّما في فضاء المناخ السياسي العام، وفي الميدان، على أديم منطقة ذات قابلية مُفرطة للاشتعال عند أوّل عود ثقاب يُلقيه عابر سبيل عابث على هشيمها المشبع بالزيت الخام، والتربّص والاحتقان، أو يدّسه تحت برميل البارود دسّاس.
في الذاكرة الغضّة، وفي الملفّات ومُحرّكات البحث، نجد أنّ المعارك الكبرى والوقائع الحربية التاريخية جرت في فصل الصيف، ولا سيّما في يونيو/ حزيران، الذي شهد عدوان الخامس منه عام 1967، وفي السادس منه جرى قصف المفاعل النووي العراقي عام 1981، وفي السابع من شهر الحروب هذا كان اجتياح بيروت عام 1982، الأمر الذي يثير لدينا التحسّب الشديد حيال مُقبلات الأيام، ويُذكي الهواجس إزاء ما قد يحدث في هذا الصيف اللاهب، كما يَحِثّ بالضرورة على مدّ الأبصار إلى الأمام، لترقّب ما قد تحمله الأيام المُقبلات من متغيّرات.
والحقّ أنّ لكلّ حرب منطقها الخاص بها، ولديها ديناميّتها الذاتية المُتفرّدة، سيرورتها ومخاضها، وفوق ذلك سياقاتها، وليست كلّ الحروب تقع دائماً بتخطيط مُسبق، ولا تنشب جميعها عن سابق إصرار وتعمّد، لكنّها تحدث في واقع الأمر، تخرج عن السيطرة، تتوسّع وتتصاعد على نحو مفاجئ، رغم إعلان جانبيها أنّ لا رغبة لهما في الاشتباك، وأنّهما زاهدان في شرّ القتال، فيما يواصلان، في الوقت ذاته، الاستعداد لها على قدم وساق، في السرّ والعلن، انطلاقاً من إدراكٍ متبادلٍ لحقيقة أنّ الهوّة بينهما عميقة، وأن التسويات والحلول الوسط شبه معدومة، وبالتالي، فإنّ الواقعة المُؤجّلة واقعة لا محالة، تماماً على نحو ما تلهج به ألسنة الجنرالات حالياً، وتشي به الملاسنات والمعارك الدائرة في البرّ والجوّ والبحر.
صحيح أنّ الأطراف المعنية بسؤال الحرب هذا تكبح جماح نفسها بمشقّة، وتتجنّب الوقوع في غواية الحرب الإقليمية الكبيرة، غير أنّ هذه الحالة لا تنطبق بالضرورة على دولة الاحتلال المُتحفّزة للانتقام وردّ الاعتبار، منذ فقدت هيبتها، وانكسر أنفها قبل تسعة أشهر ثقال، إذ باتت دولة المجانين تقف اليوم أمام خيارات استراتيجية، تراوح بين صعبة وصعبة جدّاً ومستحيلة، سواء تعلّق الأمر بصفقة تبادل الأسرى، الواقعة في دائرة الخيارات الصعبة، أو الاستمرار في حرب استنفدت أغراضها في غزّة، هذه الواقعة بدورها في نطاق الخيارات الصعبة جدّاً، أو اتصل الأمر بفتح جبهة غير مضمونة النتائج، وباهظة الكُلفة، في الشمال الخرب المُحترق، وهذه بعينها أم الخيارات المُستحيلة. فلا دولة الاحتلال الغارقة في رمال غزّة قادرة على فتح جبهة جديدة، قد تزيدها وهناً، وقد تقلع ما تبقّى من أنياب كلب موشي ديان المسعور جدّاً، ولا هي تستطيع العيش هكذا مردوعة مُثخَنة، تتعرّض لحرب استنزاف مديدة، ولتهديد متعاظم لبنيتها التحتية ومرافقها الحيوية وممتلكاتها الاستراتيجية، الأمر الذي سيُنزلها، والحالة هذه، على ركبتيها في نهاية مطاف قصير.
وعليه، من المنطقي الاعتقاد أنّه إذا كانت الحرب المُرتقبة مُؤجّلة إلى أجل قد لا يكون طويلاً، لأسباب لها علاقة بالعديد والعدة الإسرائيلية، ناهيك عن جملة من العوامل الذاتية والموضوعية، فإنّ ذلك لا يعني أنّ الحرب الانتقامية قد سقطت عن أجندة دولة جنّ جنونها، وتمزّقت روحها، وباتت تتحسّب لغدها الملتبس أكثر من حاضرها، الأمر الذي يمكن الافتراض معه أنّ الذئاب الجريحة سوف تحشد كلّ ما تستطيع حشده من عناصر قوّة مكتسبة، لمعاودة الكرّ، ولو بعد حين، وترميم تلك الصورة المكسورة.
اليوم، كلّ طرف بات أسير صورته وسرديته وخطابه ورؤيته لذاته، فلا المساندون لغزّة في وارد تحطيم مرآتهم عن أنفسهم، وتبديد ما استثمروه من صبر ودم وموارد طائلة، لتظهير جدّية وحدة الساحات، وتعزيز بنية المحور الممانع. وفي المقابل، لا تستطيع آخر دولة احتلال أن تعيش تحت وطأة خطر مصيري داهم، قد يوقف الهجرة من الخارج، ويُسرّع وتائرها العكسية من الداخل، ويُفقد الاستيطان جاذبيته إلى الأبد، ويُزعزع الدولة والجيش والمجتمع، الأمر الذي يجعل من المعقول للغاية استنتاج فرضية أنّ الحرب لدى قتلة الأنبياء والأطفال والنساء بمثابة تحصيل حاصل مؤجّل إلى حينٍ لن يكون طويلاً، لكنه مُجرّد مسألة وقت، حتميّ، ولا رادّ له في المدى المنظور.

45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
عيسى الشعيبي

كاتب وصحافي من الأردن

عيسى الشعيبي