كأس العالم: ربيع رياضي أو ثورة مغربية

09 ديسمبر 2022
+ الخط -

دخل المتفرّج الذي يحمل رقم "الأربعين مليوناً" إلى مقهًى. جلس في مقعدٍ حجَزه منذ الصباح ابنه الطالب، قريباً من الشّاشة. كلّ المقاهي حُجزت منذ ساعات الصّباح الأولى، وبعضها منذ أيام. ومن فاته الحجز المبكّر فاتته فرصة المشاهدة. بدأت المباراة، واتّقد مؤشّر الحركات العصبيّة التي لا تكاد تفارق أحداً، فالجميع يقف على بنان أعصابه. كلّ حركة بين مجموع الجالسين في محراب اللّحظة قد تستفزّه. وكل لحظةٍ تمرّ يضطرب الجميع، وينتقلون بين الخوف من هجمة خطرة من الفريق الخصم إلى الحماس لهجمة مُضادّة للمنتخب المغربي. والانفجار الجنوني حين يتمّ تسجيل الهدف الثمين الذي كان مجرّد حلم بعيد في العقود الماضية، وصار أقرب من حبل الوريد.

في كلّ صعود للّاعبين نحو الهجوم، ولو انطلاقاً من عمق عرين الفريق نفسه، تتصاعد الصّيحات الحماسية، فالهدف ليس بعيدا على هذا الجيل من اللّاعبين، الجيل المتعطّش للفوز، كما صرّح أشرف حكيمي، أحد أبرز نجوم المنتخب المغربي.

*

بين لحظةِ تسجيلِ أوّل ضربة جزاء، للمغاربة، في ثًمن النهاية، وتضييع أوّلها لإسبانيا، وآخر ضربةٍ سجّلها أشرف حكيمي، انهارت يقينيات وانبنت أخرى. ثم سجّل حكيم زيّاش الضربة الثانية، وضيّع اللّاعب الإسباني. حينها تسارعت دقّات القلوب: هل هذا يحدث فعلاً؟ هل نفعلها؟ ثم ضيّع اللّاعب الإسباني الثالث وسجّل حكيمي هدف الفوز للمغاربة. هبّ الجمهور من المحيط إلى الخليج، مع تعاطف واضح في دول كثيرة، هبّة رجل واحد، وشلت الصدمة الآخرين غير مصدّقين.

*

يتوجّه حكيمي إلى المدرّجات، حين رأى أمه تلوّح له بحماس. يقفز على الحواجز، ويصعد إليها معانقاً ومقبّلا رأسها. السيّدة السّمراء الطيبة التي تقدم صورة الأم في تجليها الأقوى. تُمسك وجه اللّاعب مثلما تُمسك وجه طفل، وتقبّله. إنه طفلها وفخرها، الذي يُنسيها تعب السنين وكدحها. بعد هذه الالتفاتة، صار جل اللاعبين يبحثون عن أمهاتهم في المدرّجات لتقبيلهنّ.

صحيح أن هذا السلوك ردّ الاعتبار لهؤلاء الأمهات وغيرهن، لأنهن حين يقدرن يصنعن أبطالاً، لا مثيل لهم. لكنه حملٌ ثقيل، يضعه المجتمع على عاتقهن، حملٌ يجب رفعه وموازنة الكفة. حتى لا تضطر النساء لأن يرهنّ حياتهن، من أجل تربية أشبالٍ تكبر أسوداً. الإنسان صنيعة أبويه معا لا أحدهما. وإذا حصل غير ذلك، فيجب أن يكون استثناء لا قاعدة.

*

"منتخب الأمم المتحدة" هكذا وصفت صحيفة إسبانية المنتخب المغربي. في تعبير صريح عن غيظ الأوروبي، وهو يشاهد الشّباب الذين فُتحت لهم مدارسه، في ظروفٍ تسمح بالإزهار والازدهار، وقد اختاروا اللّعب لمنتخب البلد الأصلي لآبائهم. وهذه ضربة قوية للعنصريّة، فعندما ترفضني ثقافياً وتُقصيني إنسانياً، سأذهب حيث يحبونني. جرّب أشرف حكيمي اللعب للمنتخب الإسباني في فئة الأشبال، يومين فقط، ولم يجد نفسه هناك. كان غريباً في مكان غريب، لذا ذهب حيث قاده قلبه. ليحبّه المغاربة كأنّه ابنهم من لحمهم ودمهم.

*

لم يُبهرنا أبطال اللّحظة في الملعب فقط، بل حتى قصصهم بذاتها بطولة. لأنّها رمز للانتصار على الحياة، قبل الانتصار في كرة القدم. حكيم زيّاش هذا الولد المحبوب، ذو التّقاسيم الرّقيقة والمرهفة. تودُّ لو تعانقه لتخفّف عنه الحزن الذي يسكنه، أو لعله شجنٌ قديم، سكن ملامحه، مثلما سكن الضّحك وجه الحارس ياسين بونو حتى في أحلك اللحظات. كرة القدم أنقذت زياش من الإدمان الذي وقع فيه أيام الصّبا الأولى بعد وفاة والده. أشرف حكيمي المولود في إسبانيا لأم وأب عاملين بسيطين.

ياسين بونو أكبر مثال لتقلّبات الإنسان في الحياة. أقلق الجمهور في تدخّلاته خلال ساعة وعشرين دقيقة من عمر مباراة الثُّمن، حين كان اللّاعبون يعيدون الكرة إليه، يرتبك أو يتأخر في ثقة أو تهور. وكان يبدو مشغول البال، كمن ترك طبخة على النّار، في مباراة كندا. لكنّه تحوّل إلى جبل في ضربات الجزاء أمام إسبانيا، لينتقل منتقدوه إلى مبايعين له بالحب، بعد خمس دقائق فقط.

*

خُلخلت الموازين في الدّور الأول، حتى قلنا إنّنا أدركنا ربيعاً ثورياً تَهزم فيه شعوب الجنوب القِوى الكبرى في كرة القدم وغيرها، فالتقدّم يشمل الكرة ضمن ما يشمله. ولكن في الثّمن، أُخرجت الأمم غير الكبرى من الصِّراع، وهُزم بعضها شرّ هزيمة، اليابان وكوستاريكا وكوريا الجنوبية. وتبيّن أن الربيع المنشود أَفرج عن ثورة واحدة، ثورة مغربية ببعديها الأمازيغي والعربي، وأفريقية - عالمثالثية، تبشّر بتغيير موازين القوى.

596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
عائشة بلحاج

كاتبة وصحافية وشاعرة مغربية

عائشة بلحاج