طنجة... حتّى لو كره المُطبِّعون

26 يوليو 2024

(نجيب لحريشي)

+ الخط -

لكلٍّ مدينته، وهذه مدينتي، تشدُّ عضدي وأَهشُّ فيها على دوائر الزمن. تُحبّني وأُحبّها، ومَنْ لا يُحبّ طنجة؟ كيفما كانت المدينة التي يَظّنان أنّ طنجة عليها، لا يملك المرءُ والمرأة إلّا أن يُحبّاها. لكنّني أزعم أنّ نسختي منها تمثّل وجهها الحقيقي. وجهٌ يراه جُلُّ أهلها، سواء القدامى منهم أو الذين قدموا في آخر عقود، وامتدّ بينها وبينهم الودُّ، حتّى صارت مدينتهم هم أيضاً.
اعتادَ بعضهم التغنّي بالمدينة التي كانتها طنجة بداية القرن العشرين ومنتصفه، مع غرام الفنّانين والكُتّاب العالميين بها، بين فترة الاستعمار الدولي والعقود الأولى بعد الاستقلال، قبل أن تختفي هذه النسخة، لتبقى طنجة الأخرى، الحقيقية، التي يُقيم فيها أهلها وتتمدّد مع الهجرات الكثيفة التي ضاعفت سكّانها، التي حافظت على شيءٍ واحد على الأقلّ يُميّزها، منذ ما لا أحد يذكرهُ من الزّمن؛ هو الوعي السياسي للناس هنا.
إبّان حركة 20 فبراير (2011)، كانت طنجة في في مقدمة مدن المغرب التي تقود الحراك وتصنَعه، وآخر معاقله، ففبراير وطنجة ظلّا يخرجان كلّ يوم أحد بعد توقّف باقي المدن، وإقرار الدستور الجديد، لأنّ وعيهم السياسي علّمهم أنّ الديمقراطية الحقيقية تحتاج أكثر ممّا كان يُعرَض.
هذه السنة، ومنذ بداية "طوفان الأقصى"، طنجة هي المدينة الوحيدة التي لم تتوقّف عن التظاهر تضامناً مع غزّة. كلّ يوم أحد، يخرُج آلاف النساء والأطفال والرجال حاملين الأعلام الفلسطينية، لتُعتبر الصور التي تُلتقط لهذه الحشود أبلغ تعبير عن استمرار زخم التضامن مع أهل غزّة.
ضايق طول نفس الطنجاويين طبول التطبيع، فبدأ الإعلام الأصفر، الذي يقف خلفه مساندون علنيون لإسرائيل، يهاجم أهل المدينة، التي لم ترغب في السكون والصمت كما يفعل كثيرون، طارحين السؤال القَذائفي: من أنتم؟... هؤلاء، عدا أنّهم طبول عمياء لا مبادئ لها، لا يعرفون تاريخ المدينة مع الوعي الاحتجاجي في أصعب المراحل منذ الاستقلال، ولا كيف أنّها سيرة لم تُغلق يوماً منذ أن فُتحت.
كانت مدينتا طنجة وفاس في العام 1990 معقلي إضراب عامّ لن ينساه التاريخ، ورغم أنّ فاس كانت الرائدة والأكثر تضرّراً، وعدد القتلى فيها برصاص الجيش فاق المائة. لكنّ طنجة أيضاً عرفت مواجهات حامية بين المتظاهرين والشرطة، أو بالأحرى، هاجمت فيها قوّات الأمن المتظاهرين بادئة برشّة رصاص مطّاطي، ثم أتبعته بالرصاص الحي.
في هذه الفترة، كنتُ وعائلتي نقيم قرب ساحةٍ تُشكّل مركز التظاهر الرّئيسي (وما زال). كانت حشود المُحتجّين تمرّ بشارعنا، والقنابل المسيلة للدموع ترتطم بجدران البيت. كنت طفلةً، ولكنّي أُخذت بشجاعتهم. رغم أنّ بعضاً حولي وصفهم بالمخرّبين، كما فعل الخطاب الرسمي. كانت ردّة فعلِ من لا يعرف، وكيف يعرفُ من لم يُجرّب، ولم يُفكّر خارج مصلحته الشّخصية، من لم يعرف التهميش والتضييق على لقمة العيش، وليس له الوعي السياسي ولا الموقف المبدئي تجاه القمع.
في 2016، خرج أبناء المدينة، بعشرات الآلاف، في بادرة غير مسبوقة، للتظاهر ضدّ الشركة الفرنسية المُكلّفة قطاع الكهرباء والماء، التي طغَت وبعثَت للناس فواتير فلكيّة ما أُنزل بها من سلطان. كان الحراك من أجمل ما يمكن حماسةً وتنظيماً جيّداً، رغم محاولات إفساده بطرق مُتعدّدة، لكنّه نجح وتحقّق جزء من المَطالب.
خلال المسيرات التضامنية الحالية، قالوا إنّ جماعة العدل والإحسان (المُعارِضة) تقف خلفها. لكنّ الحركة موجودة في كامل البلاد، فلماذا تعرف الوقفات التي تشارك فيها في باقي المدن حضوراً لا يتجاوز العشرات، بعد خمود شعلة المسيرات مع تواصل الإبادة وانعدام التأثير؟
رغم أنّ الحركة محور أساسي في التنظيمات المُشكِّلة للجبهة المغربية لمناهضة التطبيع ودعم فلسطين، في جانب أحزاب وتنظيمات يسارية. لكنّك تجد في صفوف المتظاهرين أناساً من الاتّجاهات كلّها، وآخرين بلا انتماءات، انضمّوا إلى المظاهرات الوحيدة الضخمة المتواصلة، بغضّ النظر عن الخلفية الأيديولوجية. فلا يكتفي الجميع بالاستنكار الذاتي للإبادة، بل هناك فئة من الناس تخرج كلّ أسبوع في موعد ثابت، تشعر معهم أنّك تستطيع أن تعتمد عليهم، إذا دارت الدوائر.
لو صمت الآخرون جميعاً، صوت طنجة كفيل بأن يُسمِع موقفَ المغاربة من حرب الإبادة، حتّى لو كره المُطبّعون.

596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
عائشة بلحاج

كاتبة وصحافية وشاعرة مغربية

عائشة بلحاج