حين ندمت إديث بياف

12 يوليو 2024
+ الخط -

"لا أندم على شيء... لا الخير الذي فُعِل لأجلي ولا الشرّ، كلّ شيء دُفِع ثمنه، كُنِس أثره ونُسِي أمره ..."... تقول إديث بياف في أغنيتها، وتقول فرنسا التي اعتنَقت اليسار بعد سنوات مريرة من السيطرة الكاملة للوسط، يميني الهوى، والتهديد الوشيك لليمين المُتطرّف.

لا يعرف كثيرون أنّ بياف عاشت في بيت دعارة قبل أن يُخرِجها صوتُها منه. ونعرف جميعاً أنّ فرنسا، وسنغضّ الطرف هنا عن التاريخ الاستعماري، باعت تاريخها الشريف في السعي إلى الحرّية والكرامة الإنسانية أخيراً، غانيةً عجوز تتعلّم سياسةً أميركية الهوى، وتطحن الفئات الأقلّ حظّاً، سواء أكانوا من أصول مهاجرة، أم عمّالاً فرنسيين أقحاحاً، من أجل أهل المال.

بلا ندم، حقّاً؟ ... حسناً، لِنطوِ الملفّات ونر ما سيأتي. وبينما تنتعش نفوس العرب خارج فرنسا بفوز اليسار، ترتاح نفوس أبناء المهاجرين أخيراً، بعدما أَظلَمت وقسَت بلاد الأنوار، التي كانت دولةً ذات رأي مستقلّ في السياسة الدولية، في عهد اليسار واليمين الديغولي، مع فرانسوا ميتران وجاك شيراك بشكل خاص، في مقابل الانبطاح البريطاني خلف الكاوبوي الأميركي، قبل أن يأتي ولد اسمه إيمانويل ماكرون جعلها تَدُسّ أنفها "البينوكيَوِي" الطابع، لا أنف سيرانو دو برجراك (1655)، العاشق (كما صوّره إدموند روستان في مسرحيته "سيرانو دي برجراك" في عرضها الأول 1897)، في كلّ مصيبة في العالم، وخاصّة في أفريقيا، خلف دونالد ترامب وتَرِكته، مُتكلّفاً بعض الأناقة الفرنسية، التي يَفتقِر إليها ترامب وجونسون، وباقي اليمينيّين الشعبويّين.

لكن هل يَخفى السُّم وإن دُسَّ في العسل؟ الحقيقة أنّ ماكرون لم يُكلّف نفسه دَهن مواقفه لا بالعسل ولا بالسّكر، بل اكتفى بأن تبجّح بها فقط، بفصاحة افتقدها الآخرون. لم ينهزم تيّار ماكرون كلّياً، لكنّه وضع رجله اليمين في باب الهزيمة، بعد أن دَسَّ رؤوس الفرنسيين في الوحل، وحوّل باريس مدينةً عسكرية، كأنّك تظنّ، وأنت تتجوّل فيها، أنّ نفقاً لولبياً حطّ بك في دولة أفريقية في عهد انقلابي، في مواجهة ثورة السترات الصفراء، التي لم تأخذ منه لا حقّاً ولا باطلاً، بعد ما يفوق سنتين من حراك صامد. وكان غريباً أن تتجذّر قدم ماكرون في السلطة، بعد مواجهته فئة عريضة من الفرنسيين، وهم العمّال وذوو الأجور المحدودة، خلال ثورة السترات الصفراء.

فلو صوّت هؤلاء مع المهاجرين، والأجيال اللاحقة لهم، لما ظلّ ماكرون في فترة رئاسية ثانية، ولما تقدّم اليمين المُتطرّف أكثر. صحيح أن بعض "السترات الصفراء" يلقون باللائمة على المهاجرين في انخفاض الأجور وفقدان الوظائف، لكنّ الحلّ حتماً ليس هو اليمين المُتطرّف، فهو وبال على فرنسا الأنوار قبل الجميع، لكنّ كثيراً من الفرنسيين البسطاء يتبعونه، خلف وعود عنصرية غير قابلة للتنفيذ.

فطردُ المهاجرين، كما يحلم اليمين المُتطرّف، لن يُنقِذ الفرنسيين، بل سيوقعهم في شرّ أعمال اليمين، فالخصاص الحاد في كثير من الوظائف، يُهدّد بالفعل الأمن الاجتماعي والرفاه الفرنسي الشهير. فهناك نقص هائل في الأطباء، وجُلّ الموجودين من أصول مهاجرة أو مهاجرين بالفعل أكملوا دراساتهم في فرنسا، وظلّوا هناك. لذا تراجع مستوى الخدمة الصحّية، بسبب قلّة الأطر الطبّية، بشكل يُؤثّر جذرياً في صحّة الفرنسيين، لأنّهم يفضّلون أن يعملوا في مهن بورجوازية متعالين على العمل الكادح.

فرنسا الوجودية دخلت أزمةً وجوديةً منذ الانتخابات الماضية. كثيرون ينتقدون اليمين المُتطرّف ولكنّه يواصل التقدّم في الانتخابات. ولولا أهون الشرّين (ماكرون) لانتصروا، ولرأينا أبناء المهاجرين يضعون ممتلكاتهم في سيّاراتهم ويتفرّقون في الأرض، كما فعل اليهود أيّام أدولف هتلر، قبل أن يُصدِر الفرمان القاتل بفنائهم جميعاً.

لكن لحسن الحظّ عاد الأمل لبضع سنوات، في انتظار أن يعود الفرنسيون إلى رشدهم. فعدا عن المهاجرين من شمال أفريقيا، وهم الأغلبية، الذين تقوم الصناعة والخدمات على أعناقهم، انتشر الصينيون انتشارَ الفاتحين في المدن الكبرى بمحلّاتهم التجارية، التي عوّضت المحلات البرجوازية العتيقة، التي لم تعد تستجيب لما تحتاجه الفترة التاريخية. وهذا بالضبط ما يفعله اليمينيّون؛ يتمسّكون بفكر أنتيكي يحلم بفرنسا شقراء لا مجال فيها لأجناس أخرى. وفي ذلك مدعاةٌ لندمٍ كثيف، سيتّضح لو تحقّقت أحلامهم، التي لن تحمل لهم حياةً ورديةً كما لم تفعل مع إديث بياف.

596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
عائشة بلحاج

كاتبة وصحافية وشاعرة مغربية

عائشة بلحاج