قيس سعيّد وتغيير هيئة الدولة التونسيّة
عمّقت "الإجراءات" السياسية الجديدة التي أعلن عنها الرئيس التونسي قيس سعيّد في خطابه أخيرا، من حالة الانقسام والتباين السياسي في المشهد الداخلي التونسي، بين معارض يرى فيها تعزيزا لخطاب السلطوية والتفرّد بالقرارات والإجراءات، وبالتالي استمرار مسلسل "الانقلاب" الذي بدأه في 25 يوليو/ تموز الماضي، ومؤيد يراها خطوة تحقق تطلّعات التونسيين وآمالهم، من خلال وضع خريطة طريق لإجراءات تنهي منظومة فاشلة، وتبني منظومةً جديدة تعيد الحياة الديمقراطية في إطار واضح.
وبصرف النظر عن مدى صوابية كل طرف، الثابت في الوضع التونسي الحالي أنّ هذه "الإجراءات" ستفتح الباب واسعاً على معارك سياسية حامية الوطيس لأسباب عديدة، منها ما يتعلّق بآليات تنفيذ هذه "الإجراءات"، ومنها ما يتعلّق بنتائجها التي يرى فيها بعضهم محاولاتٍ لتغيير هيئة الدولة التونسية بكاملها، وفقاً لرؤية قيس سعيّد وأهدافه المنفردة، في محاولةٍ للإمساك بكامل خيوط السلطة السياسية، واستكمال السيطرة على الدولة التونسية.
محاولة للإمساك بكامل خيوط السلطة السياسية، واستكمال السيطرة على الدولة التونسية
من جهة، يرى بعضهم أن خريطة الطريق التي وضعها قيس سعيّد، في خطابه أخيرا، حوت إشكالا كبيرا لا يمكن تجاهله بأي شكل، تمثّل في ترحيل موعد الانتخابات البرلمانية إلى ديسمبر/ كانون الأول 2022، أي بعد سنة، الأمر الذي يعني استمرار عيش تونس في "إجراءات استثنائية" يحتكر فيها الرئيس كل السلطات سنة إضافية، بعدما عاشت ما يزيد عن خمسة أشهر في كنفها، في وقت خلا خطابه من أي رؤية لإصلاح الاقتصاد، أو تقديم بدائل في مواجهة مطالب الفئات الاجتماعية الأكثر تضرّراً من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والصحية الملحّة التي تئن البلاد تحت وطأتها، ولا يمكن تحمّلها إلى حين عقد الانتخابات بعد سنة.
ويأخذ بعضهم على هذه "الإجراءات" والقرارات أنّها لم تأتِ على ذكر أي دور لفاعليات المجتمع المدني والقوى السياسية في المرحلة المتبقية من الفترة الاستثنائية، حيث اكتفت برسم خطوط عريضة غير واضحة لآليات تنفيذها من خلال رؤية الرئيس المنفردة لصياغة ملامح المرحلة المقبلة، وتصميمه على تجاهل أي شكل من الحوار مع الأحزاب أو هيئات المجتمع المدني، بما فيها ما تعرف بالمنظمات الوطنية الكبرى، وأبرزها الاتحاد العام التونسي للشغل، الذي تعرّض لهجوم قوي من سعيّد، وتهكّم على مقترحه "الخط الثالث" الذي طرحه الاتحاد في وقت مضى مخرجا للأزمة التونسية.
كما أخذ بعضهم على "إجراءات" سعيّد استعاضتها عن الحوار مع القوى السياسية وفاعليات المجتمع المدني بتنظيم استشارات إلكترونية عبر تطبيقاتٍ رقميةٍ لاستقصاء آراء المواطنين بشكلٍ مباشرٍ بشأن الإصلاحات السياسية والدستورية، في ما بات يُعرف بـ"الديمقراطية الانسيابية" أو "ديمقراطيات التمثيليات" الخارجة عن لعبة الانتخابات، أي التمثيل خارج الانتخابات عبر وسائل التواصل الاجتماعي، عوضاً عن "الديمقراطية التمثيلية" ومنظومة الأحزاب التي يعدّها سعيّد أنموذجاً وهيكلاً سياسياً فاشلاً غير قادر على تلبية طموح الشعب التونسي وتطلعاته بعد الثورة، الأمر الذي يعني استمرار سعيّد في معاداة الجميع، وانحيازه فقط لمشروعه الشخصي، من دون أن يكترث بأي قوى أو توازنات داخلية أو خارجية.
خصوم الرئيس باتوا على قناعة بأنّ سعيد بكل "إجراءاته" يتحرّك بمنطق البديل لا الشريك
وبالتالي، يرى مختصون عديدون أنّ "إجراءات" سعيّد، التي بدأها في 25 يوليو/ تموز، تهدف، بشكلٍ أساسي، إلى تغيير هيئة الدولة، وإقامة نظام سياسي جديد، يقوم على سلطات واسعة للرئيس، وتقليص دور البرلمان مقابل إحداث مجالس حكم محليّة أشبه ما تكون بنظام "المؤتمرات الشعبية" التي كانت في ليبيا زمن نظام معمّر القذافي. كما تهدف، في الوقت نفسه، إلى استقطاب فئات معينة من الشعب التونسي في الاستشارات الإلكترونية، وخصوصاً فئة الشباب التي يحاول سعيّد استمالتها من خلال استمرار خطاباته الشعبويّة التي يغازل فيها المواطنين بكلامٍ جميل وشعارات زائفة، تحبّبهم فيه وتكرههم في النظام السياسي والنخب السياسية والقوى المدنية الأخرى الرافضة "إجراءاته". ويمكن تلمّس هذا الأمر بشكلٍ واضح في محاولته اللعب على أكثر الرموز تأثيراً في المخيال الجماعي للشباب التونسي الذي أطلق "ثورة الياسمين"، تاريخ الثورة التونسية، وإعلانه أنّ 17 ديسمبر/ كانون الأول 2010، تاريخ إحراق محمد بوعزيزي نفسه، ما كان سبباً في اندلاع الحراك الاجتماعي في مدن تونسية مختلفة، والبداية الحقيقية لاندلاع الثورة، عوضاً عن 14 يناير/ كانون الثاني 2011، تاريخ سقوط نظام زين العابدين بن علي، والذي يرمز برأيه إلى تاريخ "سرقة" الطبقة السياسية لثورة الشباب التونسي.
في حصيلة ما سبق، يمكن القول إنّه، في ظل هذا المشهد المعقد، ينتظر تونس عام آخر، من المتوقع، حسب المحللين، أن يشهد صراعاً محتدماً بين الرئيس ومعارضيه، يمكن أن يأخذ أشكالاً مختلفة، ومن شأنه أن يضع استقرار البلاد على المحكّ، وقد يدفعها إلى التهلكة، خصوصا أن خصوم الرئيس باتوا على قناعة تامة بأنّ الرجل بكل "إجراءاته" يتحرّك بمنطق البديل لا بمنطق الشريك، وبالتالي فإن نتائج المسار الذي يسلكه بالتدريح لن تقف عند حدود فرض نظام سياسي ودستوري جديد أمرا واقعا، بل سيتعدّاه إلى تغيير هيئة الدولة ومنظومة الحكم ككل، بما في ذلك تهميش دور الأحزاب والمجتمع المدني، وصولاً إلى تكريس الحكم الفردي التام، بعيداً عن أي شكل سياسي ديمقراطي.