نتنياهو ومشروع الشرق الأوسط الجديد
"نعمل بمنهجية لتغيير الواقع الاستراتيجي في الشرق الأوسط كلّه". عبارة يجب التوقّف عندها مطولاً في كلام نتنياهو. فما نطق به ليس مُجرَّد تصريح أطلقه في لحظة شاهدة على تطرّفه الذي لا سقف له، بل هو تلخيص لما يصبو إليه من تغيير شامل وواسع، بأفق استراتيجي جديد، ضمن مخطّط إسرائيلي أميركي قديم، يُستحضَر اليوم في حرب الإبادة الجماعية ضدّ قطاع غزّة، وفي العدوان على لبنان، في محاولة لإيجاد بيئة الفوضى وعدم الاستقرار الحاضنة لحُلمه المنشود بتغيير الشرق الأوسط، وبناء "شرق أوسط جديد" تتبوأ فيه إسرائيل ركناً أساسياً في المنطقة من دون أن يقول لها أحدٌ لا.
لا يقتصر هذا المصطلح القديم الجديد، الذي تكرّر إعلامياً وأكاديمياً عبر العقود المختلفة، وفي أعقاب أحداث كُبرى، على توصيف جغرافي أو سياسي، بل يعكس حقبةً جديدةً من العلاقات والنظام الإقليمي، يسعى فيه نتنياهو إلى إعادة تشكيل موازين القوى، والتحالفات، ورسم خريطة النفوذ والسلطة في المنطقة ككل، فوق أنقاض الدمار والتهجير الكبير، الذي تُحدثه آلة القتل الإسرائيلية.
كلام نتنياهو عن "شرق أوسط جديد"، ورفعه خريطةَ هذا الشرق في أكثر من مناسبة، لا يمكن فهمه إلّا أنّه تمهيد حوادث سابقة لحوادث قادمة، وتطوّرات واتفاقيات جديدة تشير بوضوح إلى أنّ إسرائيل مصمّمةٌ على إعادة تشكيل الخريطة الجغرافية لدول الشرق الأوسط بشكل يقيم قواعدَ جديدةً، ويعيد تشكيل المنطقة بالشكل الذي ينسجم مع الأهداف الإسرائيلية، ويكون بديلاً من الخريطة التي وضعتها القوى الاستعمارية الكُبرى بريطانيا وفرنسا في مطلع القرن العشرين. هذا المشروع جزء من النظريات الإسرائيلية لنشأة الدولة وتوسّعها، ويمكن تقسيمه بين قسمَين رئيسَين. الأول حياتي وجودي، يتعلّق بما يُسمّى "إسرائيل الكبرى" جغرافياً، ويهدف إلى توسيع حدود هذا الكيان وإدخال مناطق جديدةٍ تحت سيطرته، وهذا القسم يتماشى مع ما تحدّثت عنه التيّارات الصهيونية المُتطرّفة ورؤيتها بأنّ إسرائيل يجب أن تشمل حدوداً أوسع لضمان بقاء الدولة، وهو ما يتّضح اليوم عند الحديث عن "إسرائيل الكُبرى" نواةً لهذا المشروع، بتوسعة رقعة إسرائيل القائمة من دون حدود مُعلَنةٍ، من خطّ فيلادلفي في حدود غزّة مع مصر، حتّى الليطاني في لبنان، ومناطق من شرق نهر الأردن في الأردن، مروراً بجنوب غربي سورية، وربّما أكثر وأوسع. أمّا القسم الثاني فيرتبط بـ"إسرائيل الكُبرى" افتراضيّاً، من خلال امتلاك إسرائيل ترسانة عسكرية كبيرة، وفرض الهيمنة الكاملة تكنولوجياً واقتصادياً، وتحويل إسرائيل مركزاً اقتصادياً لا غنىً عنه، ممّا يتيح لها التأثير في سياسات دول المنطقة بشكل غير مباشر.
تأسيساً على ذلك، ومع كلّ ما يجري اليوم في المنطقة، بعد نجاح إسرائيل في اغتيال حسن نصر الله في الضاحية الجنوبية لبيروت الأسبوع الماضي، وبعد اغتيال إسماعيل هنيّة في قلب طهران نهاية يوليو/تمّوز الماضي، وقياديين في حزب الله وفصائل المقاومة الفلسطينية... بعد ذلك يمكن القول إنّنا اليوم أمام تطبيق نتنياهو لرؤية زئيف جابوتنسكي "الجدار الحديدي"، وتقوم على الضغط العسكري والسحق والتدمير وسائلَ وحيدةً لتحقيق الأمن لإسرائيل، وفقاً لخرائط يرفعها نتنياهو في كلّ مناسبة، أي القضاء على أشكال المقاومة للوجود الإسرائيلي كلّها، وهو يمثّل جزءاً من مسارٍ إسرائيلي يسعى إلى تفكيك القوى المؤثّرة، التي تُشكّل تهديداً لهيمنة إسرائيل الإقليمية، وكبح نفوذ إيران المتزايد في المنطقة، في محاولة لتصفية القضية الفلسطينية، وفرض رؤيته الاستراتيجية بالقوة العسكرية. وفي ظلّ هذا السياق، يبدو أنّ "التراجع التكتيكي" الذي تمارسه بعض الدول في المنطقة تجاه القضية الفلسطينية يُعزّز رؤية نتنياهو لشرق أوسط تكون فيه إسرائيل قوةً مهيمنةً بلا منافس حقيقي.
باختصار، الحرب الحالية في غزّة ولبنان، وما شهدته من اغتيالات لقادة كبار، تشير إلى محاولة نتنياهو تسريعَ وتيرة تحقيق هذا "الشرق الأوسط الجديد" من خلال فرض واقعٍ جديدٍ بالقوة العسكرية والضغط السياسي، بما يتناسب تماماً مع الرؤية التي عرضها في الأمم المتّحدة، خلال اجتماعات الجمعية العامّة، وعلى العرب أن يدركوا هنا أنّ نتنياهو لن يتوقَّف عن تنفيذ مشروعه المُتطرّف، فالحرب ليست عاملاً اضطرارياً، أو ظاهرةً طارئةً لإسرائيل، إنّما هي جزءٌ من تكوينها العضوي، وثقافة شعبها الذي يحيا على كراهية العرب وحتمية اجتثاثهم من هذه الأرض التي هي "أرض الميعاد" التي وعد الله بها شعبه المختار، لذلك عليهم أن يعلموا أنّه عندما يصرّح نتنياهو بأنّه بدأ بتنفيذ خريطة "شرق أوسط جديد"، فإنّ جرائمه لن تقتصر على فلسطين ولبنان، بل ستمتدّ إلى مناطقَ أخرى، طالما أنّ العرب قد رضوا بأن يكونوا على مقاعد المُتفرِّجين، لذلك إنْ لم يكن لهم، على الأقلّ، موقف حاسم، فيوحّدون جهودهم ويتصدون لهذا المشروع الخطير الذي يُهدّد استقرار المنطقة برمّتها، فسوف تنفرد بهم إسرائيل الواحد تلو الآخر، لبناء "شرق أوسط جديد" يخدم المصالح الاستراتيجية ويوسّع نفوذها الإقليمي، وهو أمر يتطابق مع الأهداف التاريخية للصهيونية الكُبرى التي تنادي بتوسّع حدود إسرائيل.