من تعقيدات المشهد السوري
في واقعٍ سياسيٍّ بالغ التعقيد، وفي خطوة تعكس تحوّلاتٍ جيوسياسية عميقة في المنطقة تتجاوز إرادةَ الأطراف المحلّية السورية، لا سيّما في شمال غرب سورية، أثار قرار إعادة فتح معبر أبو الزندين، في شرق حلب، الذي يربط مناطقَ سيطرة "الجيش الوطني" (المعارض) بمناطق سيطرة النظام، جدلاً واسعاً في الشارع السوري، وفتح الباب على مصراعيه أمام تساؤلاتٍ عميقةٍ عن مستقبل المنطقة، ومآلات الثورة السورية بعد أكثر من عقد من انطلاقتها. إذ تُظهِر القراءة الأوّلية لمجمل الأحداث والآراء المتعلّقة بهذه الخطوة تباينَ الآراء بين طرفٍ مُؤيّد لفتح هذا المعبر باعتباره وسيلةً لإنعاش الاقتصاد المُتردّي وتحسين الأوضاع المعيشية في شمال غرب سورية، وطرفٌ مُعارِضٌ يرى في فتحه بوّابةً للتطبيع مع النظام السوري، وبدايةً لسلسلةٍ من التنازلات السياسية والأمنية، التي تلقي بظلالها على المشهد. وما بين هذين الطرفَين، ثمّةَ طرفٌ ثالثٌ يرى في خطوة افتتاح معبر أبو الزندين اختصاراً لقصّة سورية الراهنة بتعقيداتها الداخلية والخارجية كلّها، المُتجسِّدة في مصالح القوى الفاعلة، وذات المصلحة في أراضيها، بعيداً من مصلحة الشعب السوري والثورة السورية.
وهنا، إذا ما أردنا مناقشةَ هذه الآراء الثلاثة بشيءٍ من الواقعية، فلا بدّ بدايةً من توضيح بعض النقاط الأساسية التي تُساعِد في فهم أبعاد هذه الخطوة، النقطة الأولى وهي الأكثر أهمّيةً، هي أنّ خطوة فتح المعبر تُعتبَر سياسيةً أكثرَ منها اقتصاديةً، وتأتي في إطار التفاهمات والاتفاقيات الروسية – التركية، التي تحمل العديد من الرسائل السياسية المُبطَّنة والمُعلَنة الموجّهة إلى العديد من الفواعل الداخلية والأطراف الإقليمية الفاعلة في الشأن السوري، لذلك يمكن القول إنّه، وفي ظلّ حالة الجمود في العملية السياسية في سورية، تكون لخطوةُ فتح معبر أبو الزندين أبعادٌ سياسيةٌ أكثر منها اقتصادية، تحاول من خلالها كلّ من روسيا وتركيا تحصيل بعض المكاسب السياسية، وإيجاد مدخلٍ للدفع نحو مستوىً أعلى، سواء في عملية التطبيع التركي مع النظام السوري، أو في رؤية تركيا وروسيا للعملية السياسية في سورية، مُستغلِّين فترةَ الانتخابات الرئاسية الأميركية، التي عادة ما يحاول اللاعبون الإقليميون استغلالها لتحقيق مكاسبَ تكتيكيةٍ في الملفّات العالقة، وبالتالي فإنّ الدلالة السياسية لفتح المعبر تفوق الأثر الاقتصادي الذي يجرىي الحديث عنه من بعض الأطراف المُؤيّدة لفتح المعبر.
النقطة الثانية، والتي لا تقلّ أهمّيةً عن الأولى، ضرورة التعاطي مع خطوة فتح المعبر من زاوية انعكاساته على أوضاع المناطق المُحرَّرة، أيّ التعامل معه من زاوية ميزان الفرص والتهديدات، الذي يفترض أن يكون هو معيار العمل السياسي بعيداً من تقاطعها مع المصالح الإقليمية والدولية، لذلك إذا لم يقترن فتحُ المعبر بتحقيق مكاسبَ سياسيةٍ ملموسةٍ، وضماناتٍ أمنيةٍ حقيقيةٍ، فإنّه يُعَدُّ خطوةً غيرَ محسوبةِ العواقب، ستزيد المخاوف من أن يكون فتح هذا المعبر بدايةً لسلسلةٍ من التنازلات السياسية والأمنية، وستزيد من الضغوط والتهديدات على المُعارَضة بدلاً من أن تخفّفها أو أن تكون فرصاً متاحةً، خصوصاً أن لا أحد يعلم مضامينَ وتفاصيلَ الاتّفاقياتِ والتفاهماتِ الروسية – التركية في المنطقة ومداها.
مهما كانت الضرورات الاقتصادية لفتح معبر أبو الزندين، لن يكون حلّاً مُستداماً إلا في إطار حلّ سياسيٍّ شاملٍ
النقطة الثالثة، عدم وجود مؤسّسات أو كيانات سورية في المناطق المُحرَّرة تمتلك الشرعية والشعبية للتعامل مع مسألة فتح هذا المعبر من منظور وطني سوري بحت، يخدم المناطق المُحرَّرة بعيداً من ارتباطات فصائلية – عسكرية، أو سياسية – أمنية، وهذا ما بدا جليَّاً من أنّ القرار بإعادة فتح المعبر أتى نتيجةَ تفاهماتٍ روسية - تركية متجاوزاً رغباتِ أو اعتراضاتِ الفصائلِ المحلّيةِ والمجتمع المدني في مناطق المُعارَضة، وهذا يُؤكِّد حالة انعدام السيادة الفعلية للأطراف السورية على قراراتها الاستراتيجية.
وعليه، يمكن القول إنّ أيّ قرارٍ بشأن افتتاح معبر أبو الزندين لا يكون ضمن رؤية سياسية أوسع تهدف إلى تحقيق السلام والاستقرار في سورية سيكون قراراً مُجحفاً بحقّ الثورة السورية ومناطق المُعارَضة، إذ تبقى الخشية والتخوّف من استغلال هذه الخطوة من النظام لتعزيز شرعية نظامه أكثر، وتعزيز موقفه في المفاوضات، وإضعاف موقف الثورة والمُعارَضة، سياسياً وعسكرياً، وحتّى إنسانياً، ففتح هذا المعبر، وغيره من المعابر الواصلة بين مناطق المُعارَضة والنظام، يثير جدلاً واسعاً بشّان مصير المساعدات الإنسانية وآلية إيصالها، وهي قضيةٌ غايةٌ بالنسبة إلى المناطق المُحرَّرة، وقد تكون مُقدّمةً لإغلاق المعابر الإنسانية مع تركيا، بدعوى انتفاء الحاجة لوجودها لأنّ المعابرَ مع النظام مفتوحةٌ، وفي تلك الحالة، سيتحوّل الدعم الإنساني والإغاثي إلى النظام، وسيعزّز شرعيتَه على حساب قوى الثورة، وقد يُحصر ملفّ مشاريع التعافي المُبكِّر عبره أيضاً.
ختاماً، يبقى معبر أبو الزندين رمزاً لتعقيدات المشهد السوري، الذي تتشابك فيه خيوط السياسة والاقتصاد والأمن في نسيج واحد، ففتح هذا المعبر يتجاوز البعدَ الاقتصادي وإن كان يتضمّنه، لذلك مهما كانت ضرورته الاقتصادية، كما يُروِّج بعضهم، لا يمكن أن يكون ذلك حلّاً مُستداماً إلا إذا جاء ضمن إطار حلّ سياسيٍّ شاملٍ في سورية. لذلك، إن افتُتِح المعبرُ من دون أن يرتبط ذلك بمكاسبَ سياسيةٍ ملموسةٍ للثورة السورية، فإنّ هذه الخطوة ستكون خطوةً غيرَ محسوبةِ العواقبِ، وستزيد من الضغوط على المُعارَضة بدلاً من أن تخفّفها.