قوات مكافحة التعاطف
ليست المرة الأولى التي يصف فيها حمدين صباحي السلطة الحالية في مصر بما تستحق، وليست الأولى، أيضاً، التي يقف فيها متّهماً بأنه خلية أخوانية، من جانب أتباع عبد الفتاح السيسي، أو حصان طروادة الذي يؤدي دوراً خبيثاً، من جانب غلاة المعسكر الآخر.
في سبتمبر/ أيلول من العام الماضي 2017، تحرّكت البلاغات الأمنية والصحافية ضد صباحي، حين أعلن أن "عبد الفتاح السيسي هو النسخة الأكثر رداءةً من نظام مبارك الرديء، هو الاستبداد فجا وفاجرا، هو العداء للفقراء، هو الانصياع لصندوق النقد الدولي ومؤسسات التمويل الغربية، هو التبعيّة والرضوخ للمهيمن الاستعماري، هو العلاقات الدافئة مع العدو الصهيوني، وهو الضحكات المبتذلة مع الكيان الصهيوني، وهو التفريط لأول مرة في تاريخ مصر في أرض مصر في تيران وصنافير، وهو العدوان بالقمع والسجن والمطاردات والاختفاء القسري والقتل خارج القانون على كل صوت حر ".
والآن، وبعد عام، تقريباً، يكرّر صباحي القول، بعبارات أقوى وأوضح، حيث يعلن في مؤتمر ما تطلق على نفسها "القوى المدنية الديمقراطية" الآتي: "اللي عاوز يقف مع الشعب المصري والدولة المصرية عليه أن يقف ضد هذه السلطة، لأنها سلطة فساد، واستبداد وغباء واحتكار وتجويع لأغلبية المصريين سلطة تبعية، وبالتالي تغيير هذه السلطة وواجب على كل مصري".
وتابع: "هذه السلطة سلطة منكر، ويجب العمل على تغييرها، بقلبه، بلسانه، بيده، بكل ما استطاع سلميًا، لأننا بدون الشعب لا حول لنا ولا قوة، ليس لنا سوى الله والشعب، ونحن نثق في الشعب المصري، وعلينا أن نخوض كل الانتخابات ونجهز لها".
مرة أخرى، تتحرّك البلاغات، تطالب برأس صبّاحي "الإخواني العميل الخائن.. إلخ إلخ" وتنصب المشانق الصحافية. وعلى الجانب المقابل، تبدأ حملات التشفّي والتشكيك، من تيار "لا تسامح.. لا تعاطف.. لا تفكير"ليلتقي الرافدان في تيار كاسح من الهستيريا، يرفض كلمة الحق، إذا جرت على لسان المخالفين، وهذه هي الوضعية الأمثل لنظامٍ يهمه كثيراً أن يستمر الحريق في حقول رافضيه بالكلية، ومعارضيه بالتجزئة، لتبقى حالة التآكل الذاتي والانتحار الجماعي قائمة، حتى يوم القيامة.
والحقيقة، أن كلام حمدين صبّاحي الأخير في توصيف السلطة الحالية، وضرورة التخلص منها، بوصفها المنكر، هو الأقوى، حتى الآن، ولا يختلف عليها اثنان عاقلان، ويبقى الخلاف الواجب والمستحقّ في الرهان الساذج على الانتخابات، مرة أخرى، لتغيير هذا المنكر المدجّج بأسلحة البطش والغطرسة، والقدرة على التزوير والتزييف وإبادة الخصوم المحتملين من على وجه الأرض.
في ذلك، من حقّك، بل من واجبك، أن تختلف معه وترفض طرحه، الذي أظهرت التجربة العملية تهافته مرتين، الأولى مع صبّاحي شخصياً في 2014 والثانية في 2018 تلك التي سميت انتخابات، ولا تمتّ لمفهوم الانتخاب بصلة، بل أن صبّاحي نفسه قاد حملة مقاطعة هذا العبث، تحت شعار "خليك في البيت"، وإن كان قد بارك ترشّح خالد علي في وقت مبكر، ناهيك عن عدم احترامه شخصيًا مخرجات الانتخابات الحقيقية الوحيدة، التي حلّ بها ثالث الترتيب.
أيضاً، لعل السيد صباحي يدرك أنّ "سلطة المنكر" تحتقر مفهوم الانتخابات الحقيقية، وتمارس إذلالًا منهجيًا لكل من فكّر في الانتخابات الديمقراطية، طريقاً شرعياً وحيدًا للوصول إلى الحكم، فخلف أسوار السجون الآن أول رئيس منتخب ديمقراطياً، الدكتور محمد مرسي، ومنافسه في عملية الانتخاب الوحيدة، الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح، بينما يقبع في بحبوحة الإقامة الجبرية، الصامتة المستكينة، الجنرال أحمد شفيق، منافس الدكتور مرسي في جولة الإعادة، فيما يتهدّد المرشحين الآخرين، حمدين وخالد علي، مصير الاعتقال والتنكيل بالبلاغات والاتهامات... وحده عمرو موسى نجا من المفرمة، بعد أن أعلن انصياعه التام للسلطة (المنكر).
سيقول المتوجّسون من حمدين صبّاحي، إنه كان عنصراً مهماً في صناعة الوضع الكارثي الذي تتردّى فيه مصر، وهذا صحيحٌ واقعاً، وسليم منطقاً، وأزعم أن أرشيف كاتب هذا السطور يحفل بعديد المقالات التي تدين حمدين، وآخرين، غير أن الموضوعية تقتضي أن نقول لمن يعلن موقفاً محترماً: أحسنت، كما نقول له خسئت حين "يرتكب" موقفاً معادياً لكل ما هو حق، وكل ما هو إنساني، مستسلماً لشهوة غل وانتقام من المختلف معهم سياسياً وأيديولوجياً.
الآن، صبّاحي بمواجهة رياح الاتهام بالخيانة والأخونة، مهدّدًا في حريته وأمنه، عقابًا على الجهر بمعصية الحاكم المنكر. وبناء عليه، أعلن تضامني الكامل مع حقه في الحريّة، وفي مراجعة الذات، وفي الاختلاف، على الرغم من ضجيج "قوات مكافحة التعاطف".