قناة السويس وأزمة صنع القرارات الاقتصادية في مصر
"تُؤمّم شركة قناة السويس شركة مساهمة مصرية" .. يُعدّ هذا القرار التاريخي للزعيم جمال عبد الناصر عام 1956، في أعقاب رفض البنك الدولي تمويل مشروع بناء السد العالي، مثالا نموذجيا لصنع القرار من إعداد مسبق لكل الاحتمالات السياسية والعسكرية المنتظرة وقتها، وكان حدث التأميم ضربةً تاريخيةً في قلب الاستعمار البريطاني والفرنسي. وقد بُنيت القناة بعرق الآف الفلاحين المصريين وتضحياتهم، وارتبطت استعادتها باسترداد القرار الوطني، بعد اصدار محمد سعيد باشا عام 1854 امتياز حفر القناة للدبلوماسي الفرنسي فرديناند ديلسيبس مدة 99 عاما. وكانت القناة مدخلا للسيطرة الأجنبية على الموارد المالية المصرية، بفعل الديون التي تسبّب فيها إسماعيل باشا، والي مصر فيما بعد.
إذن، تظلّ القناة من الناحيتين، الأمنية والسياسية، أحد أصول الدولة المصرية لا ينازعها أحد في إدارتها والخاضع لسيادتها الكاملة، والذي يحظى ببعد استراتيجي رئيسي في حماية الأمن القومي المصري والعربي. كما تمثل أهمية عالمية كبيرة، حيث يمرّ فيها ما نسبته 10% من حركة التجارة العالمية، وتمثل إحدى الموارد الأساسية للنقد الأجنبي في الخزانة. وتعد القناة جزءا مهما من الادراك التاريخي المصري والعربي، لما تحمله من ذكريات بناء القناة وتأميمها وما صاحبها من تضحيات. وهذا ما يفسّر الغضب المتزايد من الرأي العام، بعد صدور الموافقة المبدئية لمجلس النواب، قبل أيام، على مشروع قانون مقدّم من الحكومة بشأن تعديل بعض أحكام قانون هيئة قناة السويس رقم 30 لسنة 1975، وإرجاء التصويت النهائي عليه إلى جلسة لاحقة لعدم توافر النصاب اللازم لتمريره.
ويقضى مشروع القانون بإنشاء صندوق جديد لهيئة قناة السويس، بغرض المساهمة بمفرده (أو مع الغير) في تأسيس الشركات، أو في زيادة رؤوس أموالها، والاستثمار في الأوراق المالية، وشراء أصوله الثابتة والمنقولة، وبيعها وتأجيرها واستغلالها والانتفاع بها. كما يسمح بإنشاء صندوق مالي مستقل للقناة، ويكون له مجلس إدارة خاص به، ويستطيع القيام باستغلال موارد القناة في مشروعات تجارية مختلفة. وعلى الرغم من وجود تسع شركات تابعة للهيئة تستثمر في مشروعات مختلفة.
يثير مشروع إنشاء صندوق جديد لهيئة قناة السويس مخاوف بفصل موارد القناة المالية عن خزينة الدولة
ويثير المشروع مخاوف فصل موارد القناة المالية عن خزينة الدولة، وفي الوقت نفسه، إمكانية خصخصة إدارتها من شركات أجنبية أو عربية، والدخول بأموالها في مشاريع أخرى لا يعرف أحدٌ عنها شيئا. ويطرح أسئلة متعدّدة، منها عن الغرض من هذا التعديل، خصوصا أنه يأتي في أعقاب قرض جديد من صندوق النقد الدولي، مصحوبا بشروطٍ تؤكّد ضرورة تخلي الدولة عن الأصول المالية والتجارية الخاصة بها، والسماح للقطاع الخاص، المحلي أو الأجنبي، بالدخول طرفا في إدارتها أو تمليكها، وهو ما حدث مع شركات تابعة للدولة وقطاع الأعمال العام. وقد رفضت الحركة المدنية الديمقراطية المعارضة المشروع، واعتبرته تهديدًا لسيادة مصر على مواردها الاستراتيجية، وتهديدًا لأمنها القومي.
ودائما كانت الصناديق الخاصة التي تديرها الهيئات والمرافق الحكومية والخاصة من النقاط المثيرة للقلق من الاقتصاديين المصريين. وظلّ مطلب إلغائها وضمها إلى ميزانية الدولة والتأكيد على وحدة الموازنة العامة وشمولها أحد المطالب الأساسية للحركة السياسية في العقود الخمسة الأخيرة، حيث وصل عدد هذه الصناديق إلى سبعة آلاف، وكان فائضها العام 2021 وحده نحو 36 مليار جنيه، لم يستقطع منها سوى ثلاثة مليارات جنيه لدعم الموازنة.
وبعكس التيار، توسّعت الدولة منذ عام 2014 في إنشاء صناديق سيادية يكون لها ميزانيتها وإداراتها ومجالس إدارتها الخاصة التابعة للسلطة التنفيذية ورئيس الجمهورية ولا تدخل مواردها ضمن ميزانية للدولة، منها صندوق تحيا مصر، والصندوق السيادي، والهيئة المنشئة للعاصمة الإدارية الجديدة. ولهذه الصناديق مجالس إداراتها المستقلة التي تشكّل بقرارات من رئيسي الجمهورية ورئيس الحكومة، وتضم في عضويتها شخصيات عامة. وتتصرّف هذه المجالس بحرية في ما تملكه تحت يديها، وتستغلّ ما تقوم به أجهزة الدولة بتغيير طابع الملكية العامة للدولة من المباني والعقارات والأراضي إلى ملكية خاصة بالدولة، وبالتالي، ضم هذه المباني فيما بعد قرارات وقوانين لاحقة بموجب قرارات جمهورية. ولا يعلم أحد أين تذهب الأموال التي تضم إلى هذه الصناديق، وكيف يتم التصرّف بها، وأين تذهب الأرباح التي تدخل إلى تلك الصناديق التي يعلن دائما أنها خارج ميزانية الدولة والنموذج الواضح لها شركة العاصمة الإدارية. وللأسف، ليس هناك رقابة حقيقية من مجلس النواب الذي يخضع للهيمنة الحكومية بشكل كامل.
يجب وقف أي إجراءات تخصّ مشروع صندوق قناة السويس وإعادة الحوار بشأن جدوى السياسات الاقتصادية الحالية التي تتبعها الدولة
ويعكس هذا التعديل أزمة هيكلية في نمط صناعة القرار، حيث تحمل الطابع الفردي للإدارة في مجال السياسات العامة، والتي تؤثر على حياة المصريين من دون توافق حقيقي حولها، وتثار عشرات الأسئلة بشأن مدى جدواها وفائدتها وآثارها الاقتصادية والسياسية، في ظل إقصاء كامل للاقتصاديين المستقلين الذين انتقدوا تلك السياسات التي تدور في دائرة مفرغة بالاقتراض من صندوق النقد الدولي وتنفيذ مطالبه الرئيسية بتعويم العملة، وتخلي الدولة عن الأصول الرئيسية التي تملكها. ولا يمكن فصل أسباب هذا التعديل عن الشروط الواردة أخيرا من صندوق النقد بخصوص القرض الذي وافق عليه مجلس إدارته، في ديسمبر/ كانون الأول الحالي.
وقد أدّت تلك السياسات إلى زيادة الديون إلى رقم قياسي وصل إلى 170 مليار دولار، ولم تتعلم معه الإدارة درس التاريخ بأن القروض هي الباب الرئيسي للسيطرة الخارجية على الاقتصاد كما حدث في عصور سابقة. وتعكس تلك القرارات فشلا كاملا للمسار الاقتصادي الذي تنتهجه الإدارة المصرية. ومن جهة أخرى، تعبر عن أزمة في صنع القرار بتغييب كل القوى والأحزاب والتوجهات الاقتصادية المختلفة. وظهر ذلك واضحا في فعاليات المؤتمر الاقتصادي الذي عقد في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، كما يأتي بالتوازي مع تعليق غير معلن لمجريات الحوار الوطني الذي دعت اليه الرئاسة سابقا.
في النهاية، تعكس تلك الأزمة مخاوف حقيقية من التخلي عن إدارة مرفق مهم وشريان رئيسي ومورد مالي، ويمثل جزءا من عوامل الأمن القومي المصري، وهو ما يؤدّي إلى ارتهان أصول الدولة المصرية لدى آخرين يسعون إلى الهيمنة على القرار السياسي، ويرغبون في توجيهه نحو تحقيق مصالحهم الضيقة. ولكل هذه الاعتبارات، يجب وقف أي إجراءات تخصّ هذا المشروع وإعادة الحوار بشأن جدوى السياسات الاقتصادية الحالية التي تتبعها الدولة، وكيفية معالجة الاثار السلبية التي تسبّبت فيها، سواء على الشعب، أو على الأمن القومي لمصر بشكل عام.