قمّة تاريخيّة وقرارات ناريّة... كالعادة
أن يجتمعوا أو لا يجتمعوا.. لن تفرق كثيرا، فالأمر لا يعدو كونه "مصاريف زيادة على الفاضي"، استهلاك وقود فى طائرات أصحاب الفخامة والجلالة والسمو.. وتعطيل مصالح الناس وشل حركتهم في أثناء توجّه هذا الزعيم أو ذاك إلى مطار بلده الأبي والعودة منه.. وتشبع الجو بكميات إضافية هائلة من فقاعات الكلام الأجوف، من شأنها مفاقمة أزمة الاحتباس الحراري، وهو أخطر كثيرا من الاحتباس السياسي والفكري الذي يسبح فيه العرب معتدلين وممانعين وراقصين على السلم في منتصف المسافة.
سيقولون الكلام نفسه وسيملأ كَتبتهم الفضاء بكائناتٍ تشبه الكلمات عن حكمة الزعيم الملهم فى إنقاذ الأمة من الهلاك والتشرذم والفرقة والانهيار، وسيكتب آخرون بحروفٍ من سخام أن الزعيم ألقى خطابا تاريخيا غير مسبوق، وضع إصبعه من خلاله فى مشكلات الأمة، وداوى جراحها بكلماته بدون حقن أو جراحة. ستنعقد تلك المسمّاة "قمّة" وتنفضّ مخلفة وراءها مئات الأمتار المكعبة من عوادم الكلام المعاد إلى درجة الملل والنتيجة صفر، سواء دخلها القادة بجدول أعمال أو بدون.
ولا يهم والحال هكذا مستوى التمثيل، لأن الموضوع برمته لا يتجاوز مناكفاتٍ ومشاكساتٍ شخصية على مستوى الكبار، وكما يقول هيكل "لا يوجد ثمّة معسكر ممانعة ولا معسكر اعتدال، بل فقط هو معسكر للبقاء على المقاعد"، فكلهم في معسكر واحد وإن اختلفت وسائل البقاء، يعتدل البعض ليبقى ويمانع البعض الآخر ليبقى أيضا، وما دام ذلك كذلك فلا فرق بين ممانعة واعتدال، وهو اختلافٌ فى الدرجة وليس فى النوع.. بعضهم واضحٌ كالشمس ومتّسقٌ مع ما يقوله، فيما يرتدي آخرون مسوح الفلاسفة، ويتحدّثون بحذلقة شديدة يتوارى أمامها جهابذة المنطق الصوري وعلماء الكلام وأساتذة البلاغة خجلا، إلا أنهم، في نهاية المطاف، يلتقون مع أقرانهم من المعتدلين فى نقطة واحدة، البقاء.
وإذا كان الراحل نزار قباني قد اعتبر، فى مناسبة كهذه، أن مجرّد التقاء العقالات برابطات العنق وامتزاج السراويل بالعباءات شىء جميل بحد ذاته، وإذا كان قد صرخ فى العرب "أحبّوا بعضكم قبل أن تنقرضوا"، فيؤسفني أن أبلغه فى قبره أنهم اختاروا أن ينقرضوا، حتى وإن بدوا متشبثين بالبقاء.
.. بقي أن أعتذر لقارئ السطور السابقة، لأنني لم أقل في السطر الأول إن هذا المقال منشور في مارس/ آذار 2009.
نحو عقدين والقمم العربية تنعقد وتنفضّ ليس باعتبارها تجمّعًا سياسيًا على أعلى مستوى يمكنه أن يصنع قراراتٍ مصيرية تغير في الواقع العربي، وإنما تقام بوصفها طقسًا فلكلوريًا يتكرّر كل فترة من دون أي حماس من الجمهور، أو من المشاركين فيه، إذ تعلم كل الأطراف أن الحكاية كلها تحصيل حاصل، وأن مثل هذا القمم لا تقدّم أو تؤخّر. لذا من الطبيعي أن يستقبلها عديد من أعضاء الكيان الميت (جامعة الدول العربية) بفتور وتلمّظ، ولا يكلفون أنفسهم مشقّة الذهاب، فيرسلون من ينوب عنهم، إذ يدّخر هؤلاء حماسهم واهتمامهم لنوع آخر من القمم، على غرار التي تنعقد برئاسة الكيان الصهيوني، كما جرى في قمة النقب مارس/ آذار من هذا العام.
.. والوضع كذلك، ليس ثمّة ما يدعو إلى الدهشة، حين تجد معظمهم مهمومين بالحشد ضد تركيا وإيران، فيما لم تعد إسرائيل تستفز غضبهم.