قراءة هادئة في الأزمة الأوكرانية

16 فبراير 2022
+ الخط -

منذ ثلاثة أشهر ونصف الشهر، يعيش العالم على إيقاع الأزمة الأوكرانية المتصاعدة بين روسيا والغرب، مهدّدة بعودة أجواء الحرب الباردة التي استمرّت زهاء أربعة عقود نهاية القرن الماضي. ثمّة من يرى في الأزمة الحالية تهديداً للسلم العالمي، إذ قد تؤدّي إلى حرب مدمرة لم يشهدها العالم من قبل، بالنظر إلى الأسلحة الفتاكة التي قد تستعمل فيها. وفي المقابل، يقلل كثيرون من مخاوف تطور هذه الأزمة إلى حرب شاملة، بسبب أسلحة الدمار الشامل التي تشكّل رادعاً، بسبب خطورتها، أمام القوى الكبرى للمشاركة فيها.

تتلخص الأزمة الأوكرانية في مطالبة روسيا بمنع أوكرانيا من الانضمام إلى الحلف العسكري الغربي، حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وتقليص قواته في الدول التي كانت سابقاً محسوبة على حلف وارسو في عهد الاتحاد السوفييتي، وبأن يتغاضى الغرب مستقبلاً عن التدخل العسكري لروسيا في هذه الدول لحماية أنظمتها الدكتاتورية، كما حدث أخيراً في كازاخستان وبيلاروسيا وقبلهما في جورجيا وأوكرانيا عام 2014. فما يخشاه الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، ليس فقط تمدّد نفوذ "الناتو" شرقاً، وإنّما موجة الديمقراطية الغربية التي تزحف تدريجياً على حدود إمبراطوريته، وتقدّم نموذجاً لحكمه الاستبدادي القائم على خليط بين الدكتاتورية والأوليغارشية. وفي المقابل، يعتبر الغرب، ممثلاً في حلف الناتو، أنّ من حق كلّ دولة ذات سيادة أن تنضم إلى الحلف الذي تريده، وليس من حق روسيا أن تهدّد كل الدول المجاورة لها كلما أرادت شعوبها أن تقرّر مصيرها بنفسها، وأي تنازل عن هذا المبدأ سيُظهر ضعف الغرب في مواجهة التمدّد الروسي المتصاعد. فما نشهده اليوم نوع من استعراض القوة من روسيا، ولعبة شدّ الحبل من الغرب لتضييق الخناق على الرئيس بوتين، لإحراجه داخل بلاده وأمام حلفائه، وهو وضعٌ يثير الخوف من مدى حدود هذين التصعيدين، العسكري والإعلامي، اللذين قد لا ينتهيان حتماً إلى استعمال روسيا القوة، لأنّها تدرك أنّ التهديد باستعمال القوة ورقة للضغط أكثر فعالية من اللجوء إليها، لأنّه في هذه الحالة لا يمكنها التحكّم في عواقبها ونتائجها التي قد تأتي عكسيةً ضد ما تستطيع أن تحققه بكلفة أقل في معركة كسر العظم القائمة حالياً بينها وبين الغرب. ولعلّ هذا ما يجعل الجانب الروسي، على الرغم من استعراضه قوته، يترك الباب مفتوحاً أمام الحوار مع القادة الغربيين الذين يسعون إلى تجنّب وقوع الحرب داخل القارّة الأوروبية، ويلوحون بورقة العقوبات الاقتصادية للحدّ من ابتزاز الدبّ الروسي لهم.

يجد بوتين في الظرف العالمي الحالي كلّ الشروط الموضوعية لتحقيق حلمه

وداخل أوكرانيا، البلد المهدّد بالغزو الروسي في أيّ لحظة بناء على الحشد العسكري الروسي الهائل على حدودها، واستناداً إلى التهويل الغربي من قرب حدوث هذا الغزو، حاول الرئيس الأوكراني، فلاديمير زيلينسكي، التقليل من خطورة الوضع الذي توجد أمامه بلاده، معوّلاً على انتصار الحلّ الدبلوماسي الذي تكاثفت جهوده في الأيام الأخيرة في انتظار حدوث معجزةٍ توقف منسوب التوتر في هذا الأزمة التي تضع من جديد السلم العالمي على المحكّ.

وبعيداً عن مظاهر استعراض القوة التي تقوم بها روسيا، والتهديد بالعقوبات الاقتصادية والحرب الإعلامية التي يشنّها ضدها الغرب، فإن احتمال وقوع الحرب يبدو مستبعداً، لكنّه سيظل قائماً، لأنّ ما تخفيه هذه الأزمة أكبر بكثير من مجرّد "ترسيم" حدود بين الحلف العسكري الغربي والإمبراطورية الروسية التي يسعى بوتين إلى إحيائها على أنقاض الاتحاد السوفييتي البائد، فهذه الأزمة تخفي ما هو أعظم، أي إعادة تقسيم العالم، كما فعلت اتفاقات يالطا، عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، إلى معسكرين وقطبين، غربي وشرقي. وما لا يجب أن ننساه أنّ بوتين، الحامل عقيدة الحرب الباردة، كان شاهداً على تفكّك حلف بلاده العسكري وانهيارها الحضاري منذ نحو ثلاثة عقود، ويسعى اليوم إلى إعادة رسم حدود نفوذها العسكري، واستعادة كبريائها في العالم. ويجد بوتين في الظرف العالمي الحالي كلّ الشروط الموضوعية لتحقيق حلمه، مستغلاً خروج العالم منهكاً من أزمة جائحة كورونا، ووجود رئيس أميركي، هو جو بايدن، ضعيف ومتردّد وواقع تحت ضغط أزمات سياسية واقتصادية تكبل تحرّكاته الداخلية والخارجية، وحوله حلف غربي منقسم على نفسه أكثر من أي وقت مضى.

كيفما كانت نهاية الأزمة التي لن تطوى قريباً، سيكون المستفيد الأول منها الصين، القوة الهادئة الصاعدة

عندما انهار الاتحاد السوفييتي قبل ثلاثة عقود كان حاملاً أيديولوجيةً لها رؤيتها الاقتصادية واستراتيجيتها العسكرية وقيمها الفكرية التي كانت تجعلها جاذبة لحلفائها عبر العالم. أما استراتيجية بوتين اليوم فتقوم على محاولته إعادة بناء النفوذ العسكري السابق لبلاده، وتشكيل حزام عازل بينها وبين الغرب على شكل الستار الحديدي الذي انهار مع انهيار جدار برلين عام 1989، بدعوى حماية أمنها من التهديد الغربي، وكلّ ما يقدّمه هو حماية الدكتاتوريين والانقلابيين الذين يضعون أيديهم في يده، وبثّ الفرقة بين صفوف الدول الغربية والتدخل في انتخاباتها لإضعاف ديمقراطياتها من الداخل، والتشكيك في نجاعة أنظمتها السياسية. وفي المقابل، على الرغم من كلّ التناقضات الذي تعتري سياساته الخارجية والأمراض والأزمات التي تعتور مجتمعاته، ما زال الغرب يشكّل نموذجاً جذّاباً لشعوب كثيرة توّاقة إلى الحرية والديمقراطية والسوق الحرّة، وإلى تقرير مصائرها بنفسها.

وكيفما كانت نهاية هذه الأزمة التي لن تطوى قريباً، سيكون المستفيد الأول منها الصين، القوة الهادئة الصاعدة التي تعرف دائماً كيف تقتنص الفرص في ظلّ الأزمات الدولية الكبيرة لتقوية نفوذها الاقتصادي والمالي في العالم. وليس خافياً أنّ بايدن وفريقه يرون في الصين خطراً أكبر مما تمثله التهديدات الروسية التي تبدو مثل البعبع الذي يخفي الخطر الحقيقي القادم المتمثل في الهيمنة الصينية على الاقتصاد العالمي. لذلك ليس من مصلحة أميركا والغرب عموماً دفع بوتين، تحت ضغط العقوبات الاقتصادية، إلى الارتماء في حضن الصين التي قد ترهن بلاده في المستقبل، مالياً واقتصادياً، وتحوّلها إلى سوق كبيرة لاقتصادها المتنامي. لذلك، قد تبدو الأزمة الأوكرانية، اليوم، لبعض الاستراتيجيين الغربيين، مجرّد ذرّ للرماد في العيون، أمام الحرب الاقتصادية الحقيقية التي تدور رحاها من دون جعجعة كبيرة، وتهدّد اقتصاديات دول غربية كبيرة في مقدمتها الولايات المتحدة.

D6ADA755-48E0-4859-B360-83AB4BBB3FDC
علي أنوزلا

صحافي وكاتب مغربي، مدير ورئيس تحرير موقع "لكم. كوم"، أسس وأدار تحرير عدة صحف مغربية، وحاصل على جائزة (قادة من أجل الديمقراطية) لعام 2014، والتي تمنحها منظمة (مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط POMED).