في واقعة أمستردام
مرّة أخرى، كشفت أحداث أمستردام في هولندا، وللمرّة الألف، نفاق الغرب وازدواجية معاييره وزيف خطابه وشعاراته ومدى ارتهان قادته وساسته وحكوماته وإعلامه ومفكّريه للوبي الصهيوني العالمي، ففي لحظةٍ انتفض هذا العالم وكأنه كتلة واحدة، ليندّد ويشجب ويدين بأقسى العبارات، ومن أعلى المستويات ما اعتبرها "معاداة للسامية" تستهدف اليهود في العالم، وصدرت عباراتُ التعاطف وبيانات التضامن مع إسرائيل وشعبها، حتى قبل أن تنجلي الحقيقة وتتّضح الصورة. فهل كانت هذه الأحداث التي تشهدها مناسباتٌ رياضية عديدة، وتُدرج في باب "الشغب الرياضي"، ويتم التعامل معها في حدود القوانين التي تؤطّر لعبة كرة القدم وتنظم حضور جماهيرها، ستأخذ كل هذا الزخم من التعليقات والتصريحات والمتابعات، لو لم تقلب الرواية الصهيونية ترتيب الأحداث وتضع الإسرائيليين في موقع الضحية؟ وهل كانت هذه الواقعة ستأخذ كل هذا البعد، لولا السياق الذي وقعت فيه، حيث حرب الإبادة الجماعية مستمرّة في غزّة منذ أكثر من 400 يوم؟ وهل كان سيُعطى لها كل هذا البعد السياسي، لولا الاستغلال السياسي والإعلامي لها من الآلة السياسية والإعلامية الصهيونية التي سارعت إلى تسييسها وتجييرها لصالح روايتها؟
منذ الساعات الأولى لهذه الأحداث، سارعت إسرائيل إلى تعميم روايتها الرسمية لما جرى لتصوّرها كما لو كانت مدبرّة سلفا بدافع كراهية اليهود ومعاداة السامية، وكان أول من افتتح سيمفونية الكذب رئيس وزراء الكيان الصهيوني، بنيامين نتنياهو، الذي شبه ما حدث بـ "ليلة البلور"، في إحالة على ما تعرّض له يهودٌ من اضطهاد على يد النازيين في إحدى ليالي عام 1938، وكان ذلك بداية مسلسل "الهولوكوست" النازي، وبسرعة تحرّكت وسائل الإعلام الغربية الكبيرة لتردّد صدى كذب الرواية الإسرائيلية، وتعاقب صدور التصريحات المتضامنة مع إسرائيل، والتنديدات بـ"أعداء السامية" و"مضطهدي اليهود" من ملك هولندا ورئيس وزرائها، إلى الرئيس الأميركي مرورا بالرئيس الفرنسي والمستشار الألماني ورئيسة المفوضية الأوروبية. وأجمعوا كلهم وبلسان واحد على إدانة المواطنين الهولنديين الذين تشاجروا مع المشجعين الإسرائيليين. ولم ينتظر أيٌّ من هؤلاء أن يتبين حقيقة ما جرى، وانساق الجميع مع الرواية الإسرائيلية للأحداث، تماما كما جرى يوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023. كان يكفي هؤلاء أن تضع إسرائيل نفسها في موقع الضحية، وأن يكون الطرف الآخر عربيا ومسلما، حتى لو كان يحمل الجنسية الهولندية، لتصبح التهمة جاهزة والمسؤولية ثابتة والحكم نافذاً. وهكذا سمعنا تصريحاتٍ تصف تلك الليلة بـ "المروّعة" كما قال رئيس الوزراء الهولندي ديك سخوف، الذي عبّر عن شعوره بالخجل مما تعرّض له المشجعون الإسرائيليون في بلاده، ليتبعه ملك بلاده ويليم الكسندر الذي لم يُخف اشمئزازه العميق، وشّبه فشل هولندا في حماية المشجّعين الإسرائيليين بفشلها في أربعينيات القرن الماضي في حماية اليهود من "الهولوكوست". ولم يتأخر الرئيس الأميركي، جو بايدن، في إدانة ما اعتبرها "أعمالا شنيعة تعكس لحظات مظلمة في التاريخ عندما تعرّض اليهود للاضطهاد". وعلى المنوال نفسه، جاء تصريح المستشار الألماني أولاف شولتز معتبرا "الهجوم" على مشجّعي كرة القدم الإسرائيليين في أمستردام بأنه "غير مقبول"، ومطالبا بضرورة توفير الأمن والأمان لليهود في أوروبا. وفي السياق، سارت وزيرة خارجية بلاده أنالينا التي عبّرت عن "صدمتها" مما تعرض له المشجعون الإسرائيليون من "عنف تجاوز كل الحدود"، و"لا يوجد ما يبرّره"! والكلام نفسه تقريبا، كرّرته مواطنتها أورسولا فون دير لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية، التي عبرت عن غضبها إزاء "الهجمات الشنيعة" ضد المشجّعين الإسرائيليين، ملوّحة بشعار المرحلة "لا مكان لمعاداة السامية مطلقاً في أوروبا.". ولم يخرج الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن السياق، عندما كتب أن أعمال العنف ضد مواطنين إسرائيليين في أمستردام تذكره بـ"الساعات الأكثر خزيا في التاريخ"!
المفارقة الوحيدة النشاز داخل هذا العزف السيمفوني الجماعي الموحد، أنه في اللحظة التي كانت تجري فيها تلك الأحداث في أمستردام، كانت إسرائيل تقصف وتقتل وتدفن تحت الأنقاض مئات من الأبرياء، أغلبهم من الأطفال والنساء والمدنيين العزّل، في غزّة ولبنان، لا بل إنها تفعل ذلك منذ أكثر من 400 يوم، وبدعم ومساعدة مالية وعسكرية وسياسية ودبلوماسية وإعلامية من هؤلاء الحكام الغربيين الذين لم نسمع أياً منهم يدين جرائم حرب الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزّة ولبنان، وخلفت أكثر من 150 ألف شهيد وجريح ومفقود، عدا عن اللاجئين والمشرّدين، كما لم نسمع تعاطفهم وتضامنهم مع الملايين الذين يٌقتلون ويمرضون ويجوعون ويشرّدون في غزة ولبنان. وكانت آخر مرّة سمعنا فيها تنديدهم وتضامنهم مع إسرائيليين يوم 7 أكتوبر (2023)، عندما تبنّوا، كما فعلوا ليلة الخميس الماضي، الرواية الإسرائيلية وردّدوها مثل ببغاوات.
رواية صهيونية كاذبة ادّعت اعتداء عرب ومسلمين مقيمين في هولندا على المشجعين الإسرائيليين في هولندا فقط لأنهم يهود
وفي المقابل، لم نسمع أي رد فعل عربي حيال ما جرى، خاصة وأن المشجّعين الإسرائيليين كانوا يردّدون شعارات بذيئة تسيء للعرب وتدعو إلى قتلهم. وباستثناء خارجية السلطة الفلسطينية التي ندّدت بما وصفتها بـ"الهتافات المعادية للعرب" والاعتداءات الواضحة على العلم الفلسطيني في أمستردام، وطالبت الحكومة الهولندية بإجراء تحقيقٍ ضد مثيري هذه الاضطرابات وبحماية الفلسطينيين والعرب المقيمين في هولندا، لم يصدر شيء عن باقي الحكومات العربية، ولاسيما الحكومتين المغربية والجزائرية اللتين أثيرت جنسيات مواطني بلديهما في هولندا، باعتبار أصحابها وراء تلك الأحداث، ومنهم من اعتقل، وهؤلاء معرّضون للمحاكمة وربما للسجن أو الترحيل، فقد بدأت الأحزاب اليمينية الهولندية المتطرّفة المساندة للحكومة اليمينية الحالية في هولندا بطرح مشاريع قوانين خطيرة لتجريد الهولنديين من أصول أجنبية من جنسيتهم الهولندية، وطردهم خارج البلاد إذا اتهموا بـ"معاداة السامية"!
المفزع في هذا المنحى الخطير التي اتخذته هذه الأحداث أنها بنيت على رواية صهيونية كاذبة ادّعت اعتداء عرب ومسلمين مقيمين في هولندا على المشجعين الإسرائيليين في هولندا فقط لأنهم يهود، لكن هذه الرواية سرعان ما انقلبت رأسا على عقب، وظهرت رواية مناقضة، معزّزة بتصريحات مسؤولين هولنديين وبفيديوهات مصوّرة انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي، تبرز أن المشجعين الإسرائيليين هم الذين بدأوا بالاستفزاز والاعتداء على الآخرين، عندما رفضوا احترام دقيقة صمت ترحّما على ضحايا فيضانات إسبانيا، وخرقوا صمت الملعب بالصفير وصرخات الاستهجان، فقط لأن الحكومة الإسبانية، رفضت أن تزكي جرائم الحرب التي ترتكبها دولة الاحتلال في غزّة. كما لم يكفوا على ترديد هتافات عنصرية ضد العرب والفلسطينيين وشتائم موجّهة ضد أطفال غزّة الشهداء والأحياء منهم، عندما ردّدوا شعارات تفتخر بتدمير جيشهم مدارس غزّة لأنه لم يعد يوجد فيها أطفال!
أكّدت أحداث أمستردام أن المواطن العربي في المهجر، ولو يحمل جنسية أجنبية، قلبه وضميره وعقله مع قضية فلسطين. وهذه رسالة إلى الأنظمة المطبّعة
وجدت هذه الرواية التي غيّبها الإعلام الغربي لها صدى في صحيفة هآرتس الإسرائيلية على عمود جدعون ليفي الذي كتب مستنكرا "ما أوقحنا.. نحن نقتل ونبطش ونطرد ثم نستعجب كراهية العالم لنا". واعترفت زميلته في الصحيفة نفسها ياردين سكوب، المقيمة في هولندا، بأن المشجعين الإسرائيليين هم من بدأوا بالاستفزاز، قبل أن تتساءل: "ما الذي اعتقدتم أنه سيحدُث حينما هتفتم منادين بالموت للعرب في أمستردام؟". وكما العادة السيئة، كان لا بد أن تخرج أصوات نشار من بين المتصهينين المقيمين في بلداننا، فقد سارع "كتبة" مغاربة إلى تحميل مسؤولية ما حدث إلى مواطني بلدهم "الهمج" المقيمين في هولندا الذين لا يعرفون تقدير قيمة "الحرية" و"الاختلاف" في بلاد المهجر الأوروبي!
ربما كان وقوع هذه الأحداث ضروريا، لأنها جاءت لتكسر الرتابة التي بتنا نتابع بها مجازر الإبادة الجماعية المستمرّة في غزّة تحت صمت (وتواطؤ) الجميع بلا استثناء، ووسط لامبالاة العالم، فقد ذكّرتنا بأن حرب الإبادة الجماعية مستمرّة في غزّة ولبنان، وفتحت أعيننا أكثر على النفاق الغربي وازدواجية معاييره وزيف خطاباته وشعاراته، وأعادت فضح عورات المتصهينين العرب المقيمين بين ظهرانينا، وأكدت أن المواطن العربي في المهجر، حتى لو كان يحمل جنسية أجنبية، فإن قلبه وضميره وعقله مع قضية فلسطين. وهذه رسالة إلى كل الأنظمة المطبّعة التي فرضت التطبيع على شعوبها. وأخيراً، فتحت لنا هذه الأحداث كوّة ضوء صغيرة بدأت تشع من عمق هذا الليل الدامس، معلنة عن بداية نهايته أو على الأقل إمكانية انزياحه، كوّة الأمل هذه هي هذا التحول الكبير في أوساط الرأي العام العالمي الذي بدأ يستعيد وعيه ويستيقظ ضميره من تخدير الرواية الصهيونية الذي جمّد إحساسه طوال السنوات والعقود الماضية.