في وداع طارق البشري
رحل العلّامة طارق البشري، تاركاً إرثاً معرفيّاً تدفّق بين فروع القانون، والفِكر، والتاريخ، ونموذجاً إنسانياً رفيعاً في الاستقامة وآداب الحوار، وهو إرث جدير بالتوقّف أمامه وقفات مطوّلة بالنظر والدراسة. كان شخصيّة مركبّة متعدّدة الأبعاد، مثّلت سبيكة نادرة المثال، اجتمع فيها تجرّد القاضي، وقوّة المُفكِّر، ودقّة المُؤرِّخ، وهي تركيبة انعكست على مختلف كتاباته. رثاه مُثقّفون كُثر من شتّى التيارات الفكرية والسياسية في العالم العربي، اتفقوا واختلفوا معه، بيْد أنهم اجتمعوا على احترامه ومتانة كتاباته.
لا يمكن فهم شخصية طارق البشري من دون النظر في الفصل المهمّ في كتابه "التكوين .. حياة المُفكّرين"، فقد تحدّث عن روافد تكوينه في طفولته، وصباه، وشبابه، وحديثه عن أثر شخصيّة جدّه سليم البشري، عليه، والذي كان شيخاً للأزهر من 1900 إلى 1917 تخلّلها فصله من منصبه نحو أربع سنوات، بسبب مواجهة حادّة جرت بينه وبين الخديوِي عبّاس، دارت حول تمسّك الأوّل باستقلال الأزهر. سمع الحفيد في طفولته رواياتٍ رسّخت في نفسه قيم كرامة العلماء، وصارت البداهات عنده أن القيمة الاجتماعية هي قيمة العِلم والموقف، لا قيمة المال والسلطان، وهو ما لازم البشري طوال مسيرته المهنية والفكرية.
النقطة الثانية حديثه عن أثر العدوان الثلاثي عام 1956 في نفسه، ودفعه إلى التحرّر من الاقتصار على الجانب المهني إلى توسيع اجتهاده للاهتمام والمشاركة في الشأن العام، ما استدعى ضرورة البناء الذّاتي بمداومة القراءة سنواتٍ في فروع العلوم الاجتماعية، حتى همّ بالكتابة عند بلوغه الثلاثين.
كان البشري في مواقفه مستقّلاً متجرّداً، يكتب ما تمليه عليه قناعاته، فلم يكن محسوباً على أي حزبٍ أو جماعة
الأهمّ هنا حديثه عن الأثر الكبير لهزيمة 1967 على مساره، وما أحدثته من هزّة، أو نقلة كبيرة، في نفسه، أذابت قدراً من بنائه الفكري، وأعادت صياغة نفسه وفِكره، بعد فترة من التوقّف والحوار مع النفس، من أجل ضبط الأفكار والقناعات القديمة، وإعادة اكتشاف الذّات، قادته إلى استدارةٍ فكريةٍ، نقلته من دائرة اليسار إلى دائرة الإسلام الحضاري الذي يختلف عن الإسلام الحركي القائم على التنظيمات والجماعات، المعروفة بفقرها المعرفي وجمودها الفكري.
كان طارق البشري في مواقفه مستقّلاً متجرّداً، يكتب ما تمليه عليه قناعاته، فلم يكن محسوباً على أي حزبٍ أو جماعةٍ. كان كما وصف نفسه واقفاً "على ملتقى الأنهار بين التيارات الوطنية"، باحثاً عن المساحات المشتركة بين مختلف المكوّنات الفكرية، والاجتماعية، والطائفية، من أجل قيام تيّار أساسي للأمّة، معبّر عن المشروع الوطني والأساس الثقافي العام.
تميّز بتركيبة تمازجت فيها روافد شتّى، تجعل من الاختزال بمكان تلوينه بلونٍ فكريٍ واحدٍ، فبإنعام النظر في مشروعه الفِكري، نجده اعتنى كثيراً بتاريخ مصر الحديث بفصوله كافة، وحتى بعد استدارته الفكرية لم يتبنّ قطيعة معرفية كاملة مع ماضيه، فمن جهة قدّم نموذجاً للوطني - الإسلامي الذي رأى أن الصدام بين الدائرتيْن، الوطنية والإسلامية، مُفتعَل مُختلَق، وأن العلاقة بينهما تكون في إطار التداخل والتحاضن، من دون أدنى تعارض، كما صار مفهوم الاستقلال لديه ثلاثي الأبعاد، يتجاوز البعديْن، السياسي والاقتصادي، إلى ضرورة استصحاب الاستقلال الحضاري الثقافي، باحترام الثقافة السائدة، والمرجعيّة الحضارية للمجتمع.
لم يقدح البشري في التجربة الناصرية قدحاً مُقذعاً، وإنما انتقد المنزع الاستبدادي للدولة الناصرية بتغييب الديمقراطية
لم يقدح البشري في التجربة الناصرية قدحاً مُقذعاً، وإنما انتقد المنزع الاستبدادي للدولة الناصرية بتغييب الديمقراطية، ورأى أن هزيمة 1967 مثّلت نهاية الفصل بين المسألتيْن الديمقراطية والوطنية، ليعودا إلى سابق عهدهما عملية سياسية واحدة، وأن الهزيمة كشفت أن الديمقراطية السياسية لازمةٌ للمحافظة على الاستقلال الوطني، في مجالي السياسة والاقتصاد. ومن جهة ثالثة، ظلّ مؤكّداً بعد ثورة 25 يناير على أهمية الدولة، واحترام مؤسسّاتها، وأنها الفاعل الأقوى في المشهد، ولولا الجيش لما كانت إطاحة حسني مبارك.
أمّا بشأن جماعة الإخوان المسلمين، ففي المقدّمة المطوّلة للطبعة الثانية من كتابه "الحركة السياسية في مصر 1945 – 1953"، وتحدّث فيها عن استدارته الفكريّة، وجّه انتقادات حادّة لبعض مواقف جماعة الإخوان المسلمين، مثل تأييد الجماعة المنفرد حكومة إسماعيل صدقي، مرجعاً هذا إلى ظنّهم أن التأييد سيعود بالنفع على الجماعة، وسيتيح لها فرصة الانتشار السريع. وفي النهاية، أكّد على أن هذا الموقف كان بدافع العداء للوفد، وهو يمتدّ إلى الرفض الكامل لثورة 1919 بكلّ رموزها، والإدانة الكاملة لأغلب من قاموا بدورٍ تاريخيٍ في العصر الحديث. ودعا "الإخوان" إلى فحص تاريخهم بعين النقد وممارسة النقد الذّاتي، ومحاولة إدراك أن ثمّة تياراً وطنياً متسع القاعدة له تاريخه، وثوراته، وأن معالجة الأمور بروح الدفاع المطلق، بفكرة أن الفارق بينهم وبين غيرهم كالفرق بين الحقّ والباطل، فكرة لم تفدهم على الإطلاق.
من أعمدة المدرسة التجديديّة الحضاريّة التي تجمع بين الأصالة والمعاصرة
أذكر المرّة الأولى التي شاهدته فيها، عندما استضافه حمدي قنديل في برنامجه "رئيس التحرير"، ولفت نظري هدوء نبرته وعقلانيّة منطقه، بعدها عزمت على تتبّعه، فظللت سنواتٍ أقرأ له، وقد أحببت تاريخ مصر المعاصر وعرفت تاريخ الحركة الوطنية المصرية من كتاباته، ما جعل من لقاء الرجل أمنية عزيزة يحدوني الأمل في تحقّقها، وقد كان هذا على يد الصديق يحيى جاد (من تلاميذ البشري المُقرَّبين) الذي اصطحبني ذات صباح في صيف 2019 لزيارة البشري، كرّرتها ثانية، وتواصلت معه هاتفيّاً مرّات. والخلاصة التي خرجت بها أن الرجل نموذج فريد، ومثال فذّ في الأدب والتواضع والدماثة، كان (وهو الذي يمثل قامة فكرية ووطنية رفيعة) يحاور شاباً دون أبنائه حوار الندّ للندّ، ويستمع أكثر ممّا يتكلّم، ويقبل الاختلاف برحابة صدر، مع ابتسامة صافية وصوت خفيض.
من أعمدة المدرسة التجديديّة الحضاريّة التي تجمع بين الأصالة والمعاصرة، وتعود جذورها إلى محمد عبده. ومن أعمدة الكتابة التاريخية التأسيسية المُعمَّقة. كان صوتاً عاقلاً حكيماً ضاع في صخب المعارك الاستقطابيّة، ورحل في وقتٍ عصيبٍ، عالمنا أحوج ما يكون فيه إلى أصوات العقلاء الحكماء.