عن التصعيد الإسرائيلي الإيراني
تزايدت في الأسبوعَين الماضيَين وتيرةُ التصعيد الإسرائيلي في مواجهة إيران، وأصبحت المواجهة بين إسرائيل وإيران مواجهة مباشرة سافرة في العلن، بعدما ظلّت نحو عقدَين مواجهة مستترة في الظلّ خلف الستار. المتغيّر الأساس الذي طرأ في الأيّام الماضية يتمثّل في تغيّر قواعد الاشتباك بين الطرفَين، وهو مُتغيّر استراتيجي بالغ الأهميّة ستكون له تداعيات كبيرة على وجه المنطقة بأكملها، بعدما تمكنّت إسرائيل من تصفية الصفَّين الأوّل والثاني من القيادات السياسية والعسكرية لحزب الله، في مقدمّتهم الأمين العام للحزب حسن نصر الله، الذي قضى في غارة إسرائيليّة بقنابل خارقة للحصون، استهدفت المقرّ المركزي لقيادة حزب الله بالضاحية الجنوبية ببيروت قبل الشروع في عملية عدوانية إسرائيلية داخل الأراضي اللبنانية، في حين ردّت إيران بقصف صاروخي لأهداف في العمق الإسرائيلي.
بداية، تتعيّن الإشارة إلى أنّ بيئة الشرق الأوسط تتّسم منذ أمدٍ بعيدٍ بأنّها صراعية، تبرز بين آنٍ وآخر عدّة قوى إقليمية تتصارع فيما بينها على الهيمنة على المنطقة، وعلى محاولة السيطرة على مقدّراتها، وتقديم نفسها للقوى الدوليّة اللاعبَ الإقليمي الأقوى والأقدر على التحكّم في إيقاع التفاعلات الإقليميّة، والتأثير في مساراتها. أمّا في العقود الماضية فقد عرفت المنطقة ظاهرة "الحِقَب" المنفردة المُتعاقبة، وفقاً للاعب الإقليمي الأبرز على المسرح الذي يقوم بدور محوري بين أطراف الإقليم، ففي نهاية الخمسينيّات كانت الحقبة الناصريّة، نظراً للدور الكبير الذي لعبه نظام جمال عبد الناصر في صياغة التفاعلات الإقليميّة في العالم العربي والقارّة الأفريقية، بتقديم نفسه لمحيطه الإقليمي قائداً لعملية التحرّر الوطني في مواجهة قوى الاستعمار، حتّى جاءت كارثة 5 يونيو/ حزيران 1967، التي مثّلت نقطة النهاية للحقبة للناصريّة، ونقطة البداية لانكماش الدور المصري، وصولاً إلى "كامب ديفيد" التي كانت بمثابة نقطة أفول الدور المصري في المنطقة، وورثت تركته عدّة أطراف: السعوديّة وإيران وتركيا وإسرائيل.
ما جرى في المنطقة أخيراً وضع حدّاً للمعادلة الاستراتيجيّة القديمة، وأعاد صياغتها، بعد عقدَين من الصراع بالوكالة بين إسرائيل وإيرن
في السبعينيّات والثمانينيّات جاءت الحقبة السعوديّة، بعد الارتفاع الكبير لأسعار النفط، والطفرة الاقتصادية الكبيرة بالمملكة، والدور السياسي الكبير للسعوديّة، خاصّة في عهد الملك فيصل، وكادت المنطقة أن تدخل الحقبة العراقية في منتصف الثمانينيّات لولا الغزو العراقي للكويت في أغسطس/ آب 1990، والإجهاز على العراق قوّة إقليميّة بعد "عاصفة الصحراء" 1991، وقرار مجلس الأمن 687، الذي حمل أسوأ نظام للعقوبات في تاريخ العلاقات الدوليّة ضدّ العراق. ثمّ جاء الغزو الأميركي للعراق في مارس/ آذار 2003، حاملاً تحوّلاتٍ استراتيجيّة خطيرة في المنطقة، أهمّها انتقال أهداف السياسة الأميركية من حماية أمن إسرائيل وضمان تفوّقها، إلى لعب إسرائيل دوراً مباشراً في سياسات المنطقة، أمّا الأسوأ فهو الإخلال بالتوازن الاستراتيجي في الخليج لصالح إيران بـ"إهداء" العراق لها، ليصير ساحة مفتوحة أمام إيران كي تسرح وتمرح فيها، عبر أذرعها السياسيّة والعسكريّة، فقد تعاونت إيران مع الاحتلال الأميركي بصورة غير مباشرة، عبر حلفائها من الكُتل الشيعيّة، فأيّدت مشاركتهم في مجلس الحُكم الانتقالي، كما أيّدت دستور الحاكم المدني الأميركي للعراق، بول بريمر، الذي انتهك عروبة العراق، وأسّس للمحاصصة الطائفية، وشكّل تهديداً لوحدة العراق بالدعوة إلى الفيدراليّة.
وفي يناير/ كانون الثاني 2004، وقف محمد علي أبطحي (نائب الرئيس الإيراني الأسبق محمد خاتمي) في مؤتمر الخليج وتحدّيات المستقبل بأبوظبي ليقول بصورة علنيّة صريحة: "لولا التعاون الإيراني لما سقطت كابول وبغداد بهذه السهولة"، مؤكّداً أنّ بلاده قدّمت كثيراً من العوْن للأميركان في حربهم ضدّ أفغانستان والعراق. كان ذلك التصريح اللافت تقريراً لأمر واقع، فقد خلّص الغزو الأميركي، لأفغانستان ثمّ العراق، إيران من خصميَن لدودَين مجاورَين لها، الأوّل طالبان، والثاني نظام صدّام حسين، وجاء تصريح أبطحي الذي أطلقه من محفلٍ رسمي في دولة عربيّة بمثابة إعلان دخول المنطقة الحقبة الإيرانيّة، لا سيّما بعد حرب يوليو/ تمّوز في عام 2006 بين إسرائيل وحزب الله، وصعود نجم أمينه العام حسن نصر الله في الفضاء الإعلامي العربي، بوصفه رمزاً للمقاومة، والدعم الكبير لحركة حماس في غزّة، وتدشين محور "الممانعة" تحت قيادة إيران، بالتزامن مع تصاعد الأزمة السياسيّة الداخليّة في لبنان، وصولاً إلى أحداث 7 مايو/ أيار 2008، وسقوط العراق في براثن الفصائل الشيعيّة المدعومة إيرانيّاً، والدلالات الطائفيّة الفجّة في مشهد إعدام الرئيس العراقي الراحل صدّام حسين، بما يعني أنّ إيران أضحت صاحبة الكلمة العليا في دولتَين عربيتَين، هما العراق ولبنان، إلى جانب حليفتها سورية.
في ذلك الحين، بدا واضحاً أنّ صراع النفوذ الإقليمي ينحصر في إسرائيل في مواجهة إيران، خاصّة مع تصدّر أحمدي نجاد بخطابه الأيديولوجي المتطرّف المشهد السياسي الإيراني، ليكون المعادل الموضوعي لخطاب المحافظين الجُدد في أميركا، واستمرّت معطيات المشهد حتّى جاء الموقف التركي في الحرب الإسرائيليّة على قطاع غزّة في يناير 2009، وصولاً إلى المواجهة الشهيرة التي جرت بين رجب طيب أردوغان وشيمون بيريز في مؤتمر دافوس، ليضع حدّاً للهيمنة الإيرانية المنفردة، مؤسّساً معادلة استراتيجية إقليمية جديدة، فصارت إسرائيل هي الطرف المُهيمن، وإيران هي الطرف المُناوئ لها، في حين جاءت تركيا في موقع الطرف المُوازِن بينهما، مع غياب عربي كامل.
إن تمكّنت إسرائيل من توجيه ضربة قاصمة لبرنامج إيران النووي ستصبح إسرائيل سيّدةَ المنطقة من دون منازعٍ
لكنّ ما جرى في المنطقة، خلال الأيّام الماضية، وضع حدّاً للمعادلة الاستراتيجيّة القديمة، وأعاد صياغتها بصورة كاملة، بعد أكثر من عقدَين من الصراع المُتباعد بالوكالة بين إسرائيل وإيران على مقعد القيادة بالمنطقة، كان العامل الكابح لجماح إسرائيل فيها هو الأذرع الإيرانية المحيطة بها، وخشيتها من أن ينهمر عليها وابل نيراني كثيف يُحيل حياة مواطنيها إلى جحيم. بيْد أنّه في الأيّام الماضية، تمكنّت إسرائيل من توجيه ضربة بالغة القوّة لإيران، عبر تحطيم قدرات الذراع الإيرانية الكبرى، المتمثّلة في حزب الله، الرابض على حدودها الشماليّة، فصارت إسرائيل تقف وجهاً لوجه مع إيران، من دون كابحٍ أو مانعٍ أو فاصلٍ، في حين صارت الثانية تقف وظهرها ملتصق بالحائط، مع حضور خطابٍ إسرائيلي مُفعَمٍ بالزهوْ والاستعلاء والغطرسة، يتحدّث بصورة صريحة عن إعادة تشكيل المنطقة، يستبطن حالة من عدم التصديق لسنوح هذه الفرصة التاريخيّة التي قلّما تتكرّر أمام إسرائيل، للانقضاض على خصم إقليمي عنيد، ينازعها الهيمنة على مقدّرات الإقليم، من أجل تحطيم قدراته أو قوّته الرادعة المُحتملَة، التي يعمل عليها منذ عقود، بتوجيه ضربة قاصمة لبرنامجه النووي. وهو أمر لو حدث فسيعني (بكلّ أسى وأسف) أنّ إسرائيل أمست سيّدة المنطقة من دون منازعٍ، وأنّ الإقليم دخل الحقبة الإسرائيليّة. هذا كلّه مع غيابٍ كاملٍ للعرب أصحاب المنطقة الأصليين، الذين اكتفوا طوال العقود الثلاثة الماضية بالمشاهدة الصامتة، مكتفين بالدوران في فلك السياسات الأميركيّة، وبالجلوس على مقاعد المُتفرّجين.