حاشية على اغتيال يحيى السنوار

27 أكتوبر 2024
+ الخط -

بعد أكثر من عام من المطاردة والملاحقة الدؤوبة، باعتباره المطلوب الأوّل من الآلة الحربيّة الإسرائيليّة بكلّ مستوياتها العسكريّة والاستخباراتيّة، قضى رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، يحيى السنوار، نحبه يوم الخميس قبل الماضي (17 أكتوبر/ تشرين الأول) في معركة مع قوّات الاحتلال الإسرائيلي في رفح جنوبي قطاع غزّة. إذ أعلنت إذاعة الجيش الإسرائيلي مقتله بطريق "المصادفة" خلال قصفٍ على منزل في رفح، حيث شُوهِدَ وهو مُلثَّم يُلقي عصاً تجاه الطائرة المُسيّرة قبل ثوانٍ من مقتله، وفق المتحدّث باسم جيش الاحتلال الإسرائيلي.
سقط السنوار في الميدان فوق الأرض، حاملاً سلاحه وهو يقاتل الاحتلال حتى الرمق الأخير، ولم يكن مُختبئاً في الأنفاق تحت الأرض، أو مُتخذاً من الرهائن دروعاً بشريّة كما زعمت الرواية الإسرائيليّة الكاذبة، وظلّت تردّده أكثر من عام، من أجل رسم صورة ذهنيّة مشوّهة للرجل، ولقد رسّخ السنوار بمقتله صورة أيقونيّة في تاريخ التحرّر الوطني للمقاتل العنيد، الذي قاد المقاومة وظلّ يقاتل قوّات الاحتلال حتى قضى نحبه في سبيل تحرير بلاده من المُحتلّين.

يحسَب للمقاومة الفلسطينيّة مقدرتها الفائقة في التصدّي لمحاولات الاختراق الإسرائيليّة الأميركيّة لمنظومتها البدائيّة

ووصف الرئيس الأميركي جو بايدن مقتل السنوار بأنّه "يوم جيّد لأميركا وإسرائيل والعالم"، مشيراً إلى "فرصة لمستقبل غزّة من دون حماس في السلطة"، مؤكّداً أنّه وجّه بعد وقت قصير من هجمات 7 أكتوبر (2023) "أفراد العمليّات الخاصّة وأجهزة الاستخبارات الأميركيّة، للعمل جنباً إلى جنب مع نظرائهم الإسرائيلييّن للمساعدة في تحديد وتعقّب مكان السنوار، وغيره من قادة "حماس" المُختبئين في غزّة"، حسب تعبيره. في السياق نفسه، قال مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان، إن معلومات مخابرات أميركيّة، ساعدت إسرائيل في تعقّب قادّة "حماس"، بمن فيهم السنوار.
النقطة اللافتة التي تستحقّ النظر هنا الإقرار الأميركي الصريح من أعلى الهرم السياسي في إدارة بايدن بالدعم الكبير متعدّد المستويات من الولايات المتحدة لإسرائيل بعد 7 أكتوبر، وما يستحقّ التوقّف أن الآلة الاستخباراتيّة الإسرائيليّة المدعومة أميركيّاً بأحدث طُرز طائرات الاستطلاع والمُسيّرات، عجزت لأكثر من عام عن تحديد مكان السنوار، وأن الآلة الحربيّة الإسرائيليّة المُزوّدة بأحدث ما وصلت إليه الترسانة العسكريّة الغربيّة، وقفت عاجزةً أمام بقعة مكانيّة محدودة مثل قطاع غزّة، وأمام مقاومة لا تعدو أن تكون سوى بضع مجموعات مُسلّحة تسليحاً خفيفاً ومتوسّطاً على أقصى تقدير، مُكوّنة من أفراد مقاتلين لا يملكون سوى أسلحة خفيفة، طُوِّرَت بإمكانات محليّة في بقعة مُحاصَرة منذ نحو عقدَين.
يُحسَب للمقاومة الفلسطينيّة في غزّة مقدرتها الفائقة طوال الأشهر الماضية على التصدّي لكلّ محاولات الاختراق الإسرائيليّة - الأميركيّة لمنظومتها البدائيّة، مقارنة بالقدرات التجسسيّة الإسرائيليّة الهائلة، المدعومة بأحدث ما وصلت إليه التقنيّات الأميركيّة في الاختراق والتجسّس. رغم هذه الحالة الهيستيريّة الإسرائيليّة/ الأميركيّة في ملاحقة رجل واحد أكثر من عام، وصلت إلى حدّ إنشاء وحدة خاصّة داخل جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي (الشاباك)، تعمل مدار الساعة من أجل جمع المعلومات عمّا يُعتقَد أنها أماكن وجود السنوار، ظلّت الآلة الإعلاميّة الإسرائيليّة تردّد خلاله أن السنوار "إرهابي دموي"، وتصفه بأنّه مهندس هجمات 7 أكتوبر، والعقل المُدبّر لها، ومع كلّ هذا أخفقت إسرائيل في الإيقاع به، ولم تنجح إلا بطريق "المصادفة"، كما ورد على لسان المتحدّث الإسرائيلي.
في السياق نفسه، ثمّة تصريح مهمّ كاشف، أصدره وزير الخارجيّة الأميركي أنتوني بلينكن من الدوحة، في يونيو/ حزيران الماضي، خلال محادثات لاتفاق مُقترَح لوقف إطلاق النّار، قاله فيه: "لن يُسمَح لحماس بتقرير مصير هذه المنطقة ومسنقبلها". هذا التصريح يُلخّص جوهر صراع السرديّات، الذي يدور في الأشهر الماضية، إذ ترتكز السياسة الأميركيّة، وتتبعها السياسة الغربيّة (مع استثناءات غير مُؤثّرة مثل مواقف أيرلندا، وإسبانيا، وسلوفينيا، وبلجيكا) في ضرورة تأديب وكسر المقاومة، حتى لا يتكرّر ما حدث في 7 أكتوبر (2023). الخطّ الرئيس المُهيمن على الفضاءين، السياسي والإعلامي، في الغرب، هو أنّ ما حدث في ذلك اليوم ليس هزيمةً وإهانةً لإسرائيل فحسب، بل هو إهانة للمنظومة الغربيّة بأكملها، باعتبار إسرائيل جزءاً لا يتجزّأ من المنظومة السياسيّة والثقافيّة والعسكريّة الغربيّة، ولهذا كان لما حدث وقع الصدمة الشديدة على الفضاء الرسمي الغربي، باعتبار إسرائيل ربيبة الغرب التي صنعها على عينه، وحرص على إمدادها طوال العقود الماضية بأحدث أنواع الأسلحة، وأحدث ما وصلت إليه التكنولوجيا العسكريّة الغربيّة. إذ كيف لبضع مئات من المُقاتلين المُحاصَرين المُجوَّعين المُراقَبين على مدار اليوم، من الأجهزة الاستخباراتيّة الإسرائيليّة، الذين تلقوا تدريباً محدوداً وتسليحاً خفيفاً، أن يقوموا بما قاموا به، بما يتطلّبه من برامج تدريبيّة، وتخطيط دقيق أفضى إلى تنفيذٍ أذهل الجميع بمن فيهم أصحاب الشأن أنفسهم؟ ... كيف لهؤلاء المُقاتلين أن ينجحوا في توجيه مثل تلك الضربة الموجعة لإسرائيل التي اعترف رئيس وزرائها، بأن السابع من أكتوبر يوم أسود في تاريخ إسرائيل لم تعرفه منذ المحرقة؟ وكيف لهم أن ينجحوا في إخفاء الرهائن داخل شبكة مُعقّدة من الأنفاق، عجزت أحدث طائرات التجسّس عن رصدها؟

تركّز الخطاب الأميركي في تحميل السنوار مسؤوليّة فشل التوصّل إلى صفقة تبادل للأسرى، بيد أن نتنياهو كان حجر العثرة 

ارتكز الخطاب الأميركي خلال الفترة الماضية على تحميل السنوار مسؤوليّة فشل التوصّل إلى صفقة لوقف إطلاق النّار مع تبادل الأسرى، بيد أن نتنياهو كان حجر العثرة الأساس في هذا الفشل، فدأب على افتعال مشكلة تلو الأخرى من أجل استمرار الحرب، آملاً نهاية ولاية الديمقراطيين وعودة ترامب إلى البيت الأبيض. من الاختزال بمكان القول إن مقتل السنوار يعني تصفية المقاومة، أو نهاية القضيّة، كما تروّج التصريحات الإسرائيليّة والأميركيّة، في محاولة باهتة لرسم صورة نصرٍ زائفٍ، استعصى استحضاره لأكثر من عام، شهد سلسلةً طويلةً من جرائم الإبادة في غزّة، فالرجل، رغم أهميّة دوره، ورغم أن مَقتله يمثّل ضربة قويّةً للمقاومة، ليس هو المقاومة ولا غزّة، فسبق لإسرائيل أن قتلت قادة عديدين من مختلف الفصائل الفلسطينيّة خلال العقود الماضية، من أمثال خليل الوزير، وأحمد ياسين، وعبد العزيز الرنتيسي، وصلاح شحادة، وعماد عقل، ويحيى عيّاش، ومحمود أبو هنود، وإسماعيل أبو شنب، ونزار ريّان، وكثيرين غيرهم. بيْد أن هذا لم ينجح في إنهاء المقاومة، بل تجدّدت بظهور جيل جديد، أخذ يقاوم الاحتلال بالصواريخ، بعدما كان الجيل القديم يقاوم بالحجارة.
تمتاز حركات المقاومة والتحرّر الوطني بتسلسل قيادي ذي طابع هرمي داخل التنظيم، يمكّن الرجل الثاني في أيّ مستوىً من أن يحلّ محلّ الأوّل حال غيابه لأيّ سبب، ولهذا تستمرّ آليّة العمل داخل تلك الحركات ولا تتوقّف بمقتل قيادي أو آخر. اغتيال إسماعيل هنيّة، ومن بعده مَقتل يحيى السنوار، لا يعنيان نهاية "حماس" أو انتهاء المقاومة، فحركة حماس حركة تحرّر وطني ذات مرجعيّة إسلاميّة، وذات جذور اجتماعيّة ضاربة في أعماق التربة الوطنيّة الفلسطينيّة، لا يمكن استئصالها أو اجتثاثها تحت أيّ ظرف، فقد يمثّل هذا المشهد نهاية هذه الجولة، لكن هناك جولات قادمة، فهناك مقاومة طالما كان هناك احتلال... هذه حقيقة تاريخيّة لا تقبل النقاش أو الجدال.