في منزلِ العجائب

03 يونيو 2022

واجهة مبنى Casa Batlló في برشلونة (18/4/2018/Getty)

+ الخط -

كأنّك دخلت لوحة لسلفادور دالي، أو من لفّ في دوامته من السّورياليين. أو لعلّ الدّهشة جذبتك إلى قلب قصيدة عالية الخيال، عميقةَ الأثر لشاعرٍ نسيت اسمه، لكن كلماته عالقة في روحك؛ تضعُ خطوتك الأولى على باب (Casa Batlló) ومثلما حدث مع أليس في بلاد العجائب، ينهارُ المنطق في طريقك، وتقابلك أشكالٌ عجيبة لجدران وسقوف ونوافذ وغرف .. تتوقّف لحظة، تحاول نبش ذاكرتك لاسترجاع لحظة بداية الحلم، وانزلاقك في كوكب السّحر والأفعوانيات اللّانهائية.

لولا جحافل غيرك من المسحورين المأسورين، لتخدّرت كلياً في أرض الجمال هذه، وظننتَ أنك ولدت هنا، وما من حياة لك قبل الآن؛ فالدّخول إلى منزل "باتلو" الذي صمّمه المهندس المعماري أنطوني غاودي (Gaudí) وسط شارع غراسيا، في برشلونة، تجربة لابد من أن يخوضها المرء مرّة في حياته. فقد يدخل عشرات المتاحف، ويرى مئات اللوحات، ولن تترك في ذهنه هذا الأثر الذي يخلفه منزل باتلو. هذا الرجل مجنون، أو صاحب عقل خارق. هذا ما ستفكّر فيه وأنت هناك، لكن هذه الخلاصة سبقتك إليها الأكاديمية التي درس فيها، في خطاب تخرجه مهندسا منها، منذ أكثر من قرن. أعني هل لعقل بشري مثل عقولنا، أن يفكر هكذا؟ والأكثر وقعاً أنه لم يكن هو الذي بنى البيت من أساسه، بل قام بتغيير و"إصلاح" بيت موجود مسبقاً، بمشاكله وهنّاته. كما يُصلح أحدنا بيتاً اشتراه. لكن غاودي حوّله إلى جنّة المنازل، أو منزل المنازل، ذلك الذي قد لا يشيد أحداً أجمل أو أكمل منه.

لعل الأمر لا يتعلّق بالجمال، بل بشيءٍ آخر غامض، مُحيّر ولذيذ في طعمه، على لسان عقلك. يا لها من عطلةٍ من اليومي، والتافه من الأشياء. لكن ما الذي يلزم الإنسان ليخرج من فخّ الواقع الذي حاصره منذ وجوده على الأرض؟ من همّ المعيش والمحيط والعائلة والزّملاء وزحمة السّير وحروب الأفراد والدول، وتقلب السياسة والمال ..

لعلك تظنّ أن غاودي كان طفلاً سعيداً، وعندما كان يُغمض عينيه، تلمع في الظلام أضواء غزيرة الألوان. تلك الألوان التي يتزحلق عبرها الأطفال إلى أرض الأحلام التي تضم الحلوى والقصص واللعب. ولعلها في حالة غاودي حملت أشكالاً لا حدّ لها، وألواناً لم يمزجها أحد كما فعل. لكن حين تقرأ عنه ستعرف أنه كان طفلاً مريضاً، قضى طفولته وحيداً رهين مرضه، وحزنه على فقدان عائلته تدريجياً.

في الطابق الأول تبدأ الدّهشة، من أشكال الجدران اللّولبية، وغرفة الجلوس التي على صغرها تبدو شاسعة ومحكمة النّحت، قاعة الطعام، المكتب .. ثم تتهاطل الأعاجيب؛ نوافذ صغيرة للتهوية، منافذ للضوء، "باطيو" مغطّى بالزليج الأزرق الذي يزداد زرقة مع الاقتراب من السطح .. البحر الحاضر بلونه وتموّجاته في كل خطوة، فمصدر إلهام Gaudí الرّئيسي، هو الحياة البحرية سواء في الأشكال أو الألوان. منها ألوان الواجهة المستوحاة من المرجان الطبيعي، إلى جانب حركة الأمواج على الخشب، والجدران، والأبواب، وبعض أشكالها المستوحى من الأساطير.

هناك أسماء أخرى لـ Casa Batlló منها، "بيت العظام" بسبب تشابه عديد من أركانه وأعمدته مع الجماجم والعظام التي تشكل معاً مساحة تمثل القفص الصدري للحيوان؛ أو الشرفات التي تحاكي الجماجم وتتخذ أيضا شكلاً من أشكال الأقنعة، ليسمّى أيضا "منزل الأقنعة". إضافة إلى "بيت التنين"، بسبب سطح الواجهة الذي يشبه ظهر تنين استلهاما لأسطورة Sant Jordi شفيع كاتالونيا، وقاتل التنين.

ذلك المزيج العجيب بين الفنون الزُّخرفية والصّناعية، مثل الحدادة، أو النّحت أو صناعة الزجاج أو السّيراميك، أو الخشب المنساب على المرمر، حقّق غنًى مذهلاً في العناصر. وسواء في الإضاءة النّهارية أو الليلية، ستسحرك الطريقة التي يخترق بها الضّوء كل ركن في البيت، من الجوانب والسقوف. والأبواب التي ليست كالأبواب، ولا المدخَنة، ولا الزجاج الذي تحوّل إلى لوحات، ولم يعد شاهداً أصم. أما واجهة البيت الرئيسيّة فهي تحكي بنفسها عن معنى المنزل ومعنى الفن. لكن ستشعر بذلك كله، حين تقف أمامه بروحه وجسده، لا أن تراه في الصّور، فما أعجز الصورة عن حمل خلاصة الجمال إلى روح النّاظر.

596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
عائشة بلحاج

كاتبة وصحافية وشاعرة مغربية

عائشة بلحاج