في مئويّة أوّل انتخابات برلمانيّة مصريّة
تحلّ هذه الأيّام الذكرى المئويّة لإجراء أوّل انتخابات برلمانيّة في مصر، والتي أُجريت في مطلع عام 1924، وجاءت تتويجاً للنجاحات التي حقّقتها ثورة 1919 المجيدة، التي اندلعت في مواجهة قوى الاستعمار، والاستبداد، ممثّلة في الاحتلال الإنكليزي، والقصر وقوى الرجعيّة، ورفعت شعار الحركة الوطنيّة المصريّة التاريخي الأثير "مصر للمصريين". وقد حفلت تلك الانتخابات بمشاهد عديدةٍ، حملت دروساً ودلالاتٍ كثيفةٍ، تستحقّ التوقّف والتأمّل.
لم يكن مشهد الانتخابات منفصلاً عمّا سبقه، فقد كان تالياً لمشاهد سابقة، مثّلت سلسلة من حلقات الصراع بين القوى الثوريّة ممثّلة في الوفد، بقيادة الزعيم الوطني سعد زغلول باشا، في مواجهة الاحتلال وقوى الرجعيّة التي لم تدّخر جهداً لتصفية الثورة من مضمونها، والحفاظ على مصالحها، وبعد سلسلة من المناورات مع حضور الضغط الجماهيري، جاء المشهد الأبرز، وهو صدور تصريح 28 فبراير (1922) الذي رفع الحماية البريطانيّة عن مصر، واعترف بها دولة مستقلّة ذات سيادة، وقد وصفه سعد زغلول بأنه "استقلال بالنبّوت".
مهّد تصريح 28 فبراير الطريق أمام التحوّل إلى النظام الدستوري، ومن ثمّ جاء مشهد وضع دستور 1923، حيث شكّلت وزارة عبد الخالق ثروت لجنة الثلاثين، برئاسة حسين رشدي، لوضع مشروع الدستور الجديد، وقد اختِيرَ أعضاؤها من الجمعيّة التشريعيّة التي نشأت في عهد الاحتلال عام 1913، و"بوصفها الهيئة التي تمثّل الأمّة تمثيلاً رسميّاً"، إلى جانب بعض الأعيان ممّن "أرضى اختيارهم أصحاب المصالح الواسعة في البلاد"، وفق تعبير محمد حسين هيكل باشا.
قام دستور 1923 على محوريْن مُتعارضيْن، الأوّل محور الملك الحاكم الفرد التقليدي، أو القصر معقل الأوتوقراطيّة العتيد ذي الطابع الاستبدادي القديم، في مواجهة محور الأمّة الديمقراطي، أو المجتمع الذي فارت قواه بحراك هائل هزّ قوائم الاستبداد الراسخة هزّاً، وزعزع دعائم الأوتوقراطيّة المُتجذِّرة، بعدما أوجدت الحركة الشعبيّة الهادرة مساحات واسعة للحركة أمام قوى المجتمع المطالبة بالحريّة، ذلك المحور الذي أنشأته ثورة 1919 التي جمعت بين المطالبة بالاستقلال والديمقراطيّة في آنٍ معاً، والذي استهدف تغيير صيغة العقد الاجتماعي المستقرّة منذ عهد محمد علي، القائمة على أن القصر هو مصدر السلطات، والشعب هو "عبيد إحسانات أفندينا"، وجاءت ثورة 1919 رافعة شعار "مصر للمصريين" محاولة النجاح فيما أخفقت فيه الثورة العرابيّة، بتوسيع مساحة حقوق المصريين، في مواجهة استبداد الحاكم الفرد أو "وليّ النعم" ذي السلطات المُطلَقَة من دون قيود، وكان هذا هو مضمون المطالبة بدستور جديد.
كانت نقطة الصراع الأهمّ في عمليّة وضع الدستور صلاحيات القصر في مواجهة صلاحيات وزارة مجلس النوّاب، سيّما تبعيّة الجهاز الإداري للدولة لأي طرف
صدر قرار بتشكيل لجنة الثلاثين المُكوَّنة من المَلَكيّين، وأصحاب الملكيّات الكبيرة من رجال حزب الأحرار الدستوريين، الذي تأسّس في أكتوبر 1922 في عهد وزارة عبد الخالق ثروت وحظي بدعمها، والذي استقطب أعضاء حزب الأمّة القديم، الذين وقفوا في مواجهة الثورة العرابيّة التي مثّلت تهديداً لمصالحهم، والذين استمدّوا قوّتهم من مراكزهم الاجتماعيّة، لا من تأييد الشعب، وقد كان أغلبهم من ذوي الأصول التركيّة والشركسيّة، والذين انشقّوا على الوفد في الأزمة الشهيرة التي نشبت عام 1921. واختار مؤسسّوه في أوّل اجتماع لهم عدلي يكن رئيساً للحزب، وطُبع مسلك الحزب، الذي مثّل الليبراليّة الأوتوقراطيّة، بطابع العداء لحزب الوفد، ممثّل الليبراليّة الوطنيّة، إلى جانب تحالف رجاله السياسي مع الإنكليز، وارتباطهم الاقتصادي بهم، فكانت دوافعهم للمشاركة في السلطة بالأساس طبقيّة، للحفاظ على مصالحهم، اتسمت بالميل إلى المساومة والمهادنة من دون تحقيق الاستقلال أو الديمقراطيّة، واقتصر هدفهم فقط على رفع الحماية من دون الاستقلال الكامل الذي كان ينشده "الوفد".
وقد أطلق سعد زغلول من منفاه في سيشيل على تلك اللجنة اسم "لجنة الأشقياء" وقاطعها، ورفض الاشتراك فيها، مطالباً بتشكيل جمعيّة تأسيسيّة مُنتخَبة تضع الدستور، وشهدت فترة عمل اللجنة مشاهد عديدة للصراع، والضغوط التي مارستها كلٌّ من القوى الثوريّة، والرجعيّة، في مواجهة الأخرى، رغم خلوّ اللجنة من أي عضو من "الوفد" أو الحزب الوطني.
كان الخلاف الأوّل الذي شهدته لجنة الثلاثين بين رجال الملك، بقيادة رئيسها حسين رشدي، المطالبين بزيادة سلطاته بذريعة كبح جماح الأهواء الحزبيّة، ورجال الأمّة المطالبين بإقرار مبدأ الأمّة مصدر السلطات بصورة كاملة. وبالطبع، لم تستطع اللجنة أن تعزل نفسها عن المناخ الثوري الذي خيّم على الأجواء في مصر إبّان عملها، في فترة موّارة بالمؤتمرات، والبيانات، والمظاهرات، حيث "لم تكن اللجنة قادرة على تجاهل أصوات المظاهرات تقتحم عليها النوافذ، وخُطب القادة، وكتابات الصُحف تطالب بالاستقلال التامّ، وبحُكم الشعب نفسه بنفسه"، وفق تعبير طارق البشري.
حفلت انتخابات 1924 في مصر بمشاهد عديدةٍ، حملت دروساً ودلالاتٍ كثيفةٍ، تستحقّ التوقّف والتأمّل
وقد شهدت فترة إعداد الدستور تغيير ثلاث وزارات، حيث أطاح الملك وزارة عبد الخالق ثروت، بعدما اختلف معها حول سلطاته في الدستور، ثمّ جاء بوزارة توفيق نسيم من أجل حذف النصّ عن السودان، وبعد إخفاقه جاء الملك بيحيى إبراهيم الذي كان شخصيّة مجهولة سياسيّاً، ولم تكن له ميول حزبيّة، بيْد أنه كان له موقف تاريخي في انتخابات 1924. وكانت نقطة الصراع الأهمّ في عمليّة وضع الدستور صلاحيات القصر في مواجهة صلاحيات وزارة مجلس النوّاب، سيّما تبعيّة الجهاز الإداري للدولة لأي طرف، ومدى سيطرته عليه، فقد أصرّ القصر على وجود المادة 38 التي منحت الملك حقّ حلّ مجلس النوّاب من دون قيد أو شرط، ومن ثَمّ إقالة الوزارة المُنتخَبَة، وقد كانت تلك المادّة الكارثيّة السبب الأساسي، بألف ولام التعريف، في كلّ الانقلابات الدستوريّة التي وقعت طوال الحقبة الليبراليّة (1922 – 1952)، والتي منحت القصر السلاح الذي حارب به حكومات "الوفد"، التي مثّلت الإرادة الشعبيّة، ورأس حربة الحركة الوطنيّة، وأطاحها قبل إتمام مدّتها، في مقابل استقدام أذناب القصر من حكومات الأقليّة التي انقلبت على دستور 1923 وعطّلت العمل به، وصولاً إلى إلغائه بصورة كاملة كما حدث لاحقاً عام 1930.
رغم كلّ النقد الذي وُجِّهَ إليه من رجال الحركة الوطنيّة، وفي مقدمتهم زعماء الوفد، فقد كان صدور دستور 1923 مكسباً ديمقراطيّاً كبيراً وفق معايير عصره، فقد أنتجت نصوصه مجالاً سياسيّاً ثلاثي الأقطاب، الأوّل الاحتلال "السلطة الفعليّة، والثاني القصر "السلطة الشرعيّة"، والثالث الأمّة/ المجتمع، فرغم سلطات الملك الواسعة الواردة في نصوص الدستور، إلّا أنها، في المقابل، أوجدت مساحات كبيرة للحركة أمام القوى الثوريّة/ المجتمعيّة، وكانت الصيغة النظريّة التي خرج بها الدستور تقول إن الأحرار الدستوريّين هم الذين سيلعبون دور الممثّل السياسي للأمّة، ويتصدّرون المشهد النيابي والوزاري، بيْد أن المفاجأة جاءت عند أوّل تطبيق عملي لأحكام الدستور الجديد في الانتخابات البرلمانيّة عام 1924 ... وهو أمرٌ يستدعي حديثاً آخرَ.