في سوء "الماذاعَنِّيَّة"
"الماذاعَنِّيَّة"، أو "ماذا عن" (Whataboutism)، تكتيك جدلي يلجأ إليه كثيرون، أفراداً وجماعات ودولاً، ونجده كذلك في المنافسات الجيوسياسية الكبرى، لحرف النقاش في مسألة ما، عبر تشتيت التركيز عليها ومحاولة نقض شرعية طرحها، أو عبر التشكيك في الموقف الأخلاقي للطرف الذي يثيرها بذريعة أنه يمارس الأمر ذاته، أو يصمت عن شبيهٍ له. وبالتالي، لا يحقّ له النقد. بهذه الطريقة يسعى المسيئون لأن يتملصوا من الإدانة أو المحاسبة، بزعم أن الناقدين ليسوا أحسن حالاً ويطبّقون معايير مزدوجة. وإذا كان من المفهوم أن يلجأ عموم الناس والهيئات، باختلاف مستوياتها ومسمياتها، إلى هذه الوسيلة الدفاعية، فإن هذا لا يقلّل من خطرها وتداعياتها، ذلك أنها تساهم في تشريع أفعال شائنة أو اعتداءات إجرامية وتجاوز على القيم والأعراف والقوانين، بمبرّر أن الآخرين يفعلون الأمر نفسه أو شبيهه، أو حتى ما هو أفظع منه.
بعيداً عن أصل الكلمة وتاريخها وتكييفاتها الفلسفية المختلفة، فإن جلَّنا إما أنَّه تمترس وراءها عندما حوصر في قولٍ محرجٍ أو موقفٍ يصعب، إن لم يكن يستحيل تبريره، أو أننا خبرنا أو شهدنا أو تابعنا من يفعل ذلك ويستلّها سيفاً يسلّطه على رقاب الجميع. وكأن لسان حال هؤلاء يقول: من كان بلا خطيئة فليرمني بحجر! مثلاً، تُدين الولايات المتحدة روسيا بسبب الجرائم التي ترتكبها في غزوها أوكرانيا، فتردّ الأخيرة، وماذا عن جرائمكم أنتم في العراق؟ وتعيِّرُ أميركا الصين باتّباع سياسات اقتصادية إكراهية في علاقاتها مع دولٍ كثيرة، فتردّ الأخرى، وماذا عن بلطجتكم أنتم بحقّ العالم اقتصادياً؟ ويتبادل الأطراف الثلاثة التهم حول إساءة استعمال حقّ النقض (الفيتو) في مجلس الأمن، وكلٌّ يرى القذى في عين منافسه، ولكنه لا يرى الجذع في عينه هو. هكذا، نخرُج من مناقشة الفعل الآني محلّ الاهتمام والإدانة، الذي يتطلّب إصلاحاً فورياً ومباشراً وجذرياً، وننتهي في جدلٍ لا ينتهي حول من أكثر فساداً وإجراماً، وكأن الأقلّ معفىً من المسؤولية ومحصّنٌ من العقاب.
تتضاعف كارثية الماذاعَنِّيَّة عندما يتعلق الأمر في الموقف من خيانةٍ وطنيةٍ أو تواطؤ مكشوف مفضوح مع عدوٍّ لشعب أو أمة. نتكلم هنا عن فريقين، كلاهما يرفض مثل تلك الأفعال المزرية في المقاييس الوطنية ويدينها، لكن هناك من يُعميه تحيّزه الإيديولوجي أو الحزبي أو الفصائلي أو السياسي لصالح طرفٍ أو ضده عن الجريمة الراهنة محلّ النقاش، وينخرط بدرجةٍ عاليةٍ من النزق في جدل عنوانه: وماذا عن الطرف الآخر؟ يتغاضى هؤلاء سفاهةً أو متعمّدين عن أن الجريمة جريمة كائناً من كان مرتكبها، وتوصيفها وتكييفها لا يتغيران تبعاً لهوية الجاني. وضمن هذه السيرورة، ينجو الجاني بفعلته، وتحقّق الجريمة تراكماً إضافياً يُطَبِّعُها مع الوقت في وعي العوام.
الماذاعَنِّيَّة ليست من صور الموضوعية، وهي أسوأ من الحياد السلبي المفتقد للقيمة أو القيم
كتبتُ في "العربي الجديد" مقالاً نشر في 18/2/2022، أوضحتُ فيه بإيجاز الفرق بين الموضوعية والحياد. كتبتُ حينها أن الموضوعية تختزن قيمة أو قيماً تحكم مسار تعاطينا مع المسائل والحكم عليها، في حين أن الحيادية تركّز أكثر على التوازن في الطرح وتقديم القضايا متخفّّفة من القيم. وفي سياق التوضيح، أشار المقال حينها إلى أنه "في السياق الديني، تقتضي الموضوعية اختيار جانب الإيمان والخير، والانحياز إلى ما يقدّمه الدين أنه حق. هذا انحياز قيميٌّ. أما إذا وظّفنا معيار الحياد، فحينها نكون أمام وضع مجرّد من القيمة، ويترتب على ذلك المساواة بين الإيمان والكفر، والخير والشر. وفي السياق الاجتماعي، تقتضي الموضوعية أن نختار جانب المظلومين والمستضعفين وننصرهم، فيما يقتضي الحياد منا أن نسمح لكل طرفٍ بعرض قضيته، على قدم المساواة، من دون حكمٍ عليها، وبهذا نكون قد مكنَّا المعتدين والمستبدّين من الاستمرار في جرائمهم والتملّص من تحمّل تبعاتها. هذا تغييب لِلْكُنْهِ القِيميِّ. وإذا أخذنا الأمر في السياق الإعلامي، تتطلب الموضوعية البحث في المعطيات، وتقليب الأدلة، للوصول إلى الحقيقة، وليس الظهور بمظهر المحايد الذي لا موقف له، وبالتالي المساهمة في تضليل الناس".
قطعاً، الماذاعَنِّيَّة ليست من صور الموضوعية، وهي أسوأ من الحياد السلبي المفتقد للقيمة أو القيم. في حالة الجاني، فإنها تمثل حالة من تشريع الجريمة أو الفعل الشائن. وفي حالة الاعتذاري، هي حالة من التواطؤ والشراكة في تشريع الجريمة والفعل الشائن.