المشكلة في فلسفة القوة الأميركية الغاشمة لا هُويَّة رئيس

01 نوفمبر 2024
+ الخط -

استمع إلى المقال:

أربعة أيام تفصل الولايات المتحدة والعالم عن تدشين مرحلة جديدة داخلياً وخارجياً. ومع أن جلَّ حلفاء واشنطن يحبسون أنفاسهم خشيةَ أن يحقّق الرئيس السابق دونالد ترامب فوزاً في الانتخابات الرئاسية، الثلاثاء المقبل، على منافسته كامالا هاريس، نائبة الرئيس الحالي جو بايدن، إلّا أن التاريخ الحاضر، كما الماضي، يثبت أن الاستقرار العالمي ليس رهينةً بشعبوية رئيسٍ وفوضويته كما ترامب فحسب، بل بكنه السياسات الأميركية وجوهرها. هنا، لا يفرق إن كان في البيت الأبيض رئيس ديمقراطي أو جمهوري. غير أن ما يقلق أميركيين كثيرين وحلفاء الولايات المتحدة ليس استقرار العالم وسيادة السلام والوئام فيه، بقدر توجّسهم من أن يطاولهم بعض شرر فوضاه ولهبه. هم لا يرفضون الهيمنة الأميركية وبقاءها "قوة الأمر الواقع"، في عالم مختلّ التوازنات، يأكل فيه القويُّ الضعيفَ، ولكنّهم يخشون رئيساً "متمرّداً" لا يلتزم بقواعد اللعبة الداخلية والخارجية، فيكون وبالاً محتملاً على العالم، وعليهم كذلك.

هل يعني ما سبق التقليل من خطر ترامب؟ ... أبداً. لكنْ، الخطورة الكبرى تكون في التظاهر وكأنّ ما قبل ترامب كان برداً وسلاماً على العالم أجمع. ثمَّة من يريد في أميركا وخارجها أن يجعل من ترامب نقطة المرجعية (Reference Point) ومستودع الشرور، وكأنّ التاريخ بدأ منذ رئاسته الأولى عام 2017. يريدون حشر معظم الرزايا التي حلَّت بالبشرية في عهده، ويتناسون ما فعله مَن سبقوه ومَن تبعه من الرؤساء، من سوء وتهديد للأمن والاستقرار العالميَين. فجأة، يتناسى بعضهم عامداً التاريخ القريب الأسود الذي دشّنته إدارة جورج بوش (الابن) مع مطلع الألفية الثالثة، تحت عنوان "الحرب العالمية على الإرهاب"، التي تسبّبت في إزهاق أرواح مئات آلاف من البشر، ودمّرت دولاً وشعوباً. ولم تكن سنوات "الرئيس الحمائمي" باراك أوباما الثماني أحسن حالاً. جاء متعهّداً بإنهاء عهد الحروب المتناسلة لبوش، ولكنّه مضى في دربه معمّقاً الحرب على "الإرهاب"، وموسّعاً جبهاتها. لاحظ أننا لا نتحدّث هنا إلا عن التاريخ القريب، أمّا البعيد فليس أقلّ سوداوية وبؤساً.

ثمَّ جاء ترامب، وفجأة كأنّ أميركا والغرب استفاقا على تهديدات الشعبوية والفوضى، ذلك أن المطلوب تصديرهما إلى العالم لا استهلاكهما محلّياً. لم يكن مقبولاً أن يعتبر ترامب أن حلف شمال الأطلسي (ناتو)، ذراع الإخضاع الغربي للعالم عسكرياً، أداةً عفا عليها الزمن. لم يكن مقبولاً أن ينخرط ترامب في معارك تجارية مع الحلفاء في أوروبا وكندا. ولم يكن مقبولاً، أميركياً، أن يشكّك ترامب بشرعية مؤسّسات الحكم الأميركية وأن يحاول المسَّ باستقرار ديمقراطية البلاد، ما دام أن الإكراه وسفك الدماء وإشاعة الفوضى موجّه خارج المنظومة الأميركية، والفلك السابح حولها، فأهلاً وسهلاً، غير ذلك فلا.

الاستقرار العالمي ليس رهينةً بشعبوية رئيسٍ وفوضويته كما ترامب فحسب، بل بكنه السياسات الأميركية وجوهرها

انقضت سنوات ترامب الأربع بعجرها وبجرها، وجاء بايدن متعهّداً بـ"استعادة سلطة أميركا أخلاقياً". وعدَ المجتمع الدولي بأن واشنطن ستقود بـ"قوة النموذج" لا بـ"نموذج القوة". استبشر العالم الذي كان يئنّ حينها تحت وطأة جائحة فيروس كورونا المتجدّد، والمنهك كذلك من الفوضى التي أشاعها ترامب داخلياً وخارجياً. لم تمضِ سنواتٌ قليلة، حتى كانت إدارة بايدن تُسعِّر نيران الحرب في أوكرانيا. هذا لا يعني أن روسيا ليست غازيةً معتديةً، ولكنّ واشنطن عملت على توريطها في تلك الحرب المدمّرة لاستنزافها، وقد نجحت. وفي موازاة ذلك، عملت إدارة بايدن (وما زالت) في استفزاز الصين في تايوان، رغم أن الولايات المتحدة تزعم أنها تعترف بـ"مبدأ صين واحدة". الصين كروسيا، ليست دولةً نزيهةً، وهي لا تقلّ إمبريالية في منطقة المحيطَين الهادئ والهندي عن أميركا وروسيا. لكنّ صراع واشنطن مع بكين وموسكو ليس للحفاظ على "النظام الدولي القائم على القواعد"، بل على من يهيمن على النظام الدولي، ويكون له حقّ الدوس على القوانين والإعلانات والمعاهدات والاتفاقيات الدولية.

وإذا أردت دليلاً أن ترامب مُجرَّد عارض لمشكلة أميركية بنيوية وفلسفية، فيكفي أن تعيد النظر في مقولات "استعادة سلطة أميركا أخلاقياً"، ومزاعم "قوة النموذج" لا "نموذج القوة"، التي بشَّرنا بها عهد بايدن عام 2021. تُرى أيّ "سلطة أخلاقية" وأي "قوة نموذج" يمكن لبايدن أن يفسّر بهما جريمة الإبادة الإسرائيلية التي هو شريك فيها في قطاع غزّة؟ ... وإذا أردت دليلاً آخر أشدّ قوة، فيكفي أن تستمع إلى حجج المتمنين فوز هاريس في انتخابات الرئاسة من أنها أهون الشرَّين، بمعنى أن الخيار بين سيئ وأسوأ، ولكن الجذر يبقى سوءاً.

رغم ما سبق كلّه، ليس كاتب هذه السطور عدمياً كي لا يرى ذلك الخيط الرفيع الذي يمايز بين مستويات ودرجات من السوء، ولكنّه لا يخدع نفسه حين يتعلّق الأمر بأصل المشكلة المتعلّق بكنه وجوهر وفلسفة القوة الأميركية الإمبريالية الغاشمة. هنا يكون بايدن وهاريس وترامب مُجرَّد عناوين سابقة ولاحقة.