في دلالات اختطاف الغنّوشي
اختارت سلطة الانقلاب في تونس مداهمة منزل رئيس مجلس نواب الشعب، المنحلّ بقرار رئاسي، رئيس حركة النهضة، راشد الغنّوشي، ليلة السابع والعشرين من رمضان، ومن ثم اقتياده إلى وجهةٍ غير معلومة، في انتهاكٍ صارخ للإجراءات القانونية. وقد استُدعي الغنّوشي، منذ انقلاب 25 يوليو أكثر من مرّة، واستجاب للامتثال أمام السلطات الأمنية والقضائية، رغم كيدية التهم وبطلانها، ما جعله يبقى في حالة سراحٍ بعد كل تحقيق.
كان الغنّوشي المستهدف الأول من الانقلاب الذي قام به قيس سعيّد، باعتباره زعيم الحزب الذي قاد الحكم فترةً، وشارك فيه أحيانا في العشرية الماضية بما خلفته هذه التجربة من مكاسب وأخطاء، وهو الحزبُ الممثل لتيار الإسلام السياسي في تونس، وما يكتنزه ذلك من اصطفافات ومعارك وطنية وإقليمية منذ انطلاق الربيع العربي، إلى جانب أنه شخصية سياسية من الحجم الثقيل، تزاحم قيس سعيّد في حضوره الاعتباري والرمزي. زد على أنه رئيس للبرلمان الذي اعتبره الرئيس خطرا داهما/ جاثما يستوجب تفعيل الفصل 80 من دستور 2014.
وبحسب هذا النصّ الخاص بالإجراءات الاستثنائية، "لرئيس الجمهورية في حالة خطرٍ داهمٍ مهددٍ لكيان الوطن وأمن البلاد واستقلالها، يتعذّر معه السير العادي لدواليب الدّولة، أن يتخذ التدابير التي تحتمها تلك الحالة الاستثنائية، وذلك بعد استشارة رئيس الحكومة ورئيس مجلس نواب الشّعب وإعلام رئيس المحكمة الدّستورية، ويعلن عن التّدابير في بيان إلى الشعب". ووفق الفقرة الثّانية من الفصل نفسه "يجب أن تهدف هذه التّدابير إلى تأمين عودة السّير العادي لدواليب الدّولة في أقرب الآجال، ويُعتبر مجلس نواب الشعب (البرلمان) في حالة انعقاد دائم طيلة هذه الفترة. وفي هذه الحالة لا يجوز لرئيس الجمهورية حل مجلس نواب الشعب، كما لا يجوز تقديم لائحة لوم ضد الحكومة". إلا أن قيس سعيّد قرأ هذا الفصل بشكل مغاير، وعطّل أعمال المجلس النيابي، ثم أمر بحلّه، مع ما رافق ذلك من قراراتٍ بوضع سياسيين ونشطاء تحت الإقامة الجبرية ومنع آخرين من السفر.
مثّل الغنّوشي حالة قلق للرئيس قيس سعيّد في الفترة الأولى من حكمه قبيل انقلابه بسبب حضوره القوي في المشهد السياسي الوطني والإقليمي
كان الغنّوشي أول المعارضين لهذه القرارات التي عدّها، منذ الليلة الأولى للإعلان عنها، انقلابا صريحا على الدستور ومؤسّسات الدولة، واختار أن ينزل للبرلمان، ويثبت للعالم استعمال سعيّد القوى الصلبة للدولة من جيش وبوليس لغلق مقر سيادي (البرلمان)، ومنع رئيسه من الدخول بقوة الدبابات. تلك الصورة لوقوف راشد الغنّوشي أمام باب المجلس النيابي الموصد بالأقفال والدبابات العسكرية وحواره مع الجندي الذي منعه من الدخول، متعللا بالتعليمات، عنونت بداية الحكم الفردي والتسلطي في تونس.
وقد مثّل الغنّوشي حالة قلق للرئيس قيس سعيّد في الفترة الأولى من حكمه قبيل انقلابه بسبب حضوره القوي في المشهد السياسي الوطني والإقليمي، فالأقدار التي رمت بسعيّد رئيسا من دون سوابق سياسية أو نضالية كانت شاهدةً في مقابل ذلك على مسيرة رجل مخضرم دامت أكثر من أربعة عقود بين النشاط والسجون والمنافي والحكم. كما تواصل هذا القلق بعد استحواذ الرئيس على الدولة وسلطاتها، وتعطيله مؤسّساتها بسبب أدوار الشيخ المعارض الذي لم يمنعه تقدّمه في السن من خوض معركة الدفاع عن الديمقراطية وسعيه إلى التقارب مع بقية الطيف السياسي الديمقراطي، رغم كل الاختلافات والخلافات السابقة.
كانت محاولات رئيس "النهضة" إيجاد حزام سياسي قوي للدفاع عن عودة الديمقراطية وتجنّبه المواجهة السياسية المباشرة مع النظام الفاشي الجديد خطوة مهمة وذكية لتجنّب الاستقطاب الحاد بين قيس سعيّد والغنّوشي أو قيس سعيّد و"النهضة"، والعمل ضمن تحالفاتٍ وجبهاتٍ واسعة أضمن لتعديل بوصلة المعارضة في الاتجاه الصحيح، وهو إسقاط الانقلاب الذي يهدّد الدولة والشعب.
الغنّوشي يواجه آلة الظلم والاستبداد بوجهٍ مكشوفٍ وخطابٍ مدنيٍّ سلميٍّ كغيره من المعارضين والمساجين السياسيين المتّهمين زورا بالتآمر على أمن الدولة
حسب بعض الروايات، كانت عملية اختطاف راشد الغنّوشي بسبب كلمة مصوّرة ألقاها في ندوة نظمتها جبهة الخلاص الوطني في مقر اعتصامها قبل يومين في العاصمة بمناسبة مرور سنة على تأسيسها، حيث اعتبر الغنّوشي أنه لا يجب التطبيع مع الانقلابات، ويجب رفضها ورميها بالحجارة لا بالورود، في تعبير مجازي، وأن الدعوات إلى إقصاء المعارضة أو أحد مكوّناتها والمناداة بتطهير الوطن منها هو محرّك للأحقاد والكراهية التي تتسبّب في انقسامات وطنية وحروب أهلية غالبا. وقد تحدّث الرجل منبّها من خطورة سلوك السلطات الانقلابية وخطابات الرئيس المشحونة بالعنف والتحريض على جزءٍ واسعٍ من الشعب التونسي، فاتهمته هذه السلطات، حسب مصادر غير معلومة، من داخل وزارة الداخلية، هو بالتحريض.
يمكن أن تكون أيضا هذه العملية الأمنية ورقة من أوراق النظام، في ظل اختناقه من جميع الزوايا وتأزّم أوضاعه الاقتصادية والاجتماعية، بما يجعل من الغنّوشي ورقة ضغط على بقية المعارضين، وورقة مساومة خارجية لبعض الجهات الداعية إلى الحوار حلّا لتخطّي الأزمة.
الثابت والأكيد أن الغنّوشي يواجه آلة الظلم والاستبداد بوجهٍ مكشوفٍ وخطابٍ مدنيٍّ سلميٍّ كغيره من المعارضين والمساجين السياسيين المتّهمين زورا بالتآمر على أمن الدولة، تاركا خلفه مستقبله السياسي، بما له وما عليه، ولعله يخوض الآن معركته الأخيرة، لكن من موقع الدفاع عن شرف مواطنته وكرامته وحقوقه وحرّياته من دون أي تردّد أو خوف ضد رئيسٍ اختار أن يجعل من "ليلة القدر" ليلة غدرٍ وظلم.