في تراجع الاهتمام الشعبي بالانتخابات الرئاسية المصرية
لو أن مركزاً بحثياً محايداً أجرى استطلاع رأي يتعلق بمدى اهتمام الرأي العام المصري بالانتخابات الرئاسية المقرّر إجراؤها في الشهر المقبل لخرج بنتيجة أساسية، مضمونها تراجع وتيرة الاهتمام الشعبي بفعاليات (وحملات) الدعاية الإعلامية للمرشّحين الذين قبلت أوراقهم رسمياً الهيئة الوطنية للانتخابات. ويأتي هذا التراجع لأسباب مختلفة، أهمها تركيز اهتمامات الرأي العام على التضامن مع الشعب الفلسطيني وأهالي قطاع غزّة، كما بدا ذلك من خلال مؤتمرات الأحزاب والنقابات المهنية والعمّالية، إلى جانب الاهتمام الواضح من قطاعات مجتمعية كبيرة برفض جرائم الحرب ضد المدنيين في غزّة، والتي أدّت إلى استشهاد الآلاف من الأطفال والنساء.
وظهر هذا التراجع بشكل تدريجي، بدأ بعد إفشال المرشح المعارض والمستقل أحمد الطنطاوي، ومنعه من استكمال التوكيلات اللازمة للترشّح من خلال حصار مقارّ الشهر العقاري، ووضع العراقيل الإجرائية والرسمية على مؤيديه، وسياسة الترهيب ضدهم بالقبض على أفرادٍ من حملته الانتخابية، وإحالته ورفاقه إلى المحاكمة بتهم عبثية. وكان إعلان ترشّح الطنطاوي قد مثّل بارقة أمل، وبديلاً لدى كثيرين من المعارضين لسياسات النظام، وأدّى إعلان ترشّحه إلى نوع من الزخم والتفاعل في الحالة السياسية المصرية. وتأكد هذا التراجع بعد قصر الترشّح على أربعة مرشّحين فقط بدعم كامل وموافقة ضمنية من أجهزة الدولة في تخصيص تأييدات النسبة اللازمة من أعضاء مجلس النواب (الحد الأدنى 20 نائباً)، وتسهيل مقارّ الشهر العقاري لاستخراج التوكيلات لاثنين منهم، وهما المرشّحان عبد الفتاح السيسي وحازم عمر.
جاءت معركة طوفان الأقصى لتُجهز على بقايا الاهتمام بفعاليات هذا الاستحقاق الانتخابي
وجاءت معركة طوفان الأقصى لتُجهز على بقايا الاهتمام بفعاليات هذا الاستحقاق الانتخابي. وبالرغم من أن هذه المعركة أحدثت حراكاً في الشارع السياسي المصري، بتنظيم مسيرات ووقفات التضامن مع الشعب الفلسطيني، والتي جاء جزءٌ منها بدعوة رسمية ضمنية، غير أنه تقرّر إنهاء تلك الاحتجاجات لاحقاً، بعد خروجها عن السيناريو المقرّر بدخول بعضها إلى ميدان التحرير، وإعلان رفض إعطاء تفويض جديد للسيسي.
وهناك أسباب إضافية تتعلق بطبيعة تلك الانتخابات أيضاً، أهمها: أولاً، خلوّ الساحة الانتخابية من مناخ الإثارة والجدل والاستقطاب الذي حدث في مرحلة الترشّح للانتخابات وما قبلها، بعد وضع النظام عراقيل إجرائية ومادية لحصار حملة طنطاوي ومؤيديه أمام مقارّ الشهر العقاري، ومنع المرشّح من دخول بعض القرى في المحافظات، بالاستعانة بالبلطجية ورجال الأمن.
ثانياً، غياب وجود فوارق كبيرة بين المرشّحين والمرشّح الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي، فيما يتعلق بموقف النظام المصري داخلياً وخارجياً. ولا يُخفي المرشّحون في تلك الانتخابات تأييدهم السيسي، والمبالغة في تقدير ما حقّقه من إنجازات حسب رؤيتهم، والتي تخالف تقديرات الواقع، سواء في الملف السياسي الداخلي أو الخارجي أو الإقليمي، وكذلك في الملفّ الاقتصادي الذي شهد تدهوراً على كل المستويات لمعيشة ملايين المصريين.
أدّى غياب الجدل في شأن سياسات النظام، ومدى تأثيرها على الأوضاع الداخلية، إلى القضاء على أي تفاعل سياسي شعبي
ويُذكر أن هؤلاء المرشّحين لم يتركوا فرصة إلا وأشادوا فيها بسياسات النظام الحالي الذي يتنافسون مع قيادته في الوقت نفسه، ربما باستثناء محدود نسبياً للمرشّح فريد زهران الذي تبنّي رؤية مختلفة قليلاً. وتبدو في شكلها نسخة معدّلة قليلاً لما جرى في انتخابات 2018 السابقة. وأدى ذلك، في المجمل، إلى غياب جاذبية الحملات الانتخابية وتغطياتها لدى الرأي العام، خصوصاً أن أغلب المؤتمرات الدعائية بدت استفزازية وغير مقبولة لدى الجمهور، لا سيما المؤتمرات التي نظّمتها أحزاب الموالاة لدعم الرئيس الحالي (السيسي)، بحشد المواطنين باستخدام الرشاوى الانتخابية، والمساعدات العينية، أو المالية، مقابل حضورهم مثل هذه الفعاليات.
ولم تؤد الحملات الانتخابية للمرشّحين الباقين إلى إثارة أي نقاش جاد وموضوعي بخصوص الموقف من سياسات النظام الحالي، سواء في أبعادها السياسية أو الاقتصادية. وبالتالي، لم تقدّم بديلاً حقيقياً لنظام السيسي، بما يجذب المواطن المصري لدعم هذه الحملات أو تأييدها، أملاً في الخروج من أفق الأزمات المتوالية التي تبدو بلا نهاية لها.
ثالثاً، أدّى غياب الجدل في شأن سياسات النظام، ومدى تأثيرها على الأوضاع الداخلية، إلى القضاء على أي تفاعل سياسي شعبي، سواء بالتأييد أو المعارضة. يزيد ذلك غياب المناظرات السياسية والانتخابية بين المرشّحين، والتي شاهدنا إحداها في نسخة 2012 بين المرشّحين، وخصوصاً تلك المناظرة بين وزير الخارجية الأسبق، عمرو موسى، ومؤسّس حزب مصر القوية لاحقاً، والمسجون منذ أربع سنوات، عبد المنعم أبو الفتوح.
في المقابل، كانت الأولوية الأولى للمتابعة من الرأي العام لما يحدُث في قطاع غزّة، وانشغل المواطنون بتنظيم حملات شعبية على وسائل التواصل الاجتماعي لمقاطعة السلع والعلامات التجارية الأجنبية الشهيرة، بسبب دعمها ومساندة شركاتها العدوان الإسرائيلي. وشارك جزء كبير من المواطنين في التفاعل والمشاركة وترويج هذه الحملات.
ليست هناك مفاجآت واردة في النتيجة النهائية التي ستعلن تدشين فترة جديدة للرئيس عبد الفتاح السيسي
رابعاً، إدارة هذه الانتخابات من خلال هيئات غير مستقلة فعلياً، والتي وقفت متفرّجة على ما يحدُث من تجاوزاتٍ تجاه المرشّحين المستقلين في مرحلة الترشّح، ولم تتخذ أي إجراءاتٍ لوقف ذلك، بالإضافة إلى غياب إشراف حقوقي محلي ودولي مستقل على تلك الانتخابات. ومن جهة أخرى، يجيز القانون استخدام العاملين المدنيين في الدولة في إدارة اللجان الفرعية، وهو ما سيكون عاملاً إضافياً لسيطرة أجهزة الدولة على تلك اللجان لإدارتها، وإخراج النتيجة كما هو محدّد سلفاً.
خامساً، السبب الأخير لذلك التراجع خلو هذه الانتخابات من صراع سياسي بين المرشّحين، فليست هناك مفاجآت واردة في النتيجة النهائية التي ستعلن تدشين فترة جديدة للرئيس عبد الفتاح السيسي، فلا توجد احتمالات غير متوقعة، على غرار تجارب أخرى لم يتجاوز الفارق فيها بين المرشّحين 4%، كما حدث في الانتخابات الرئاسية التركية أخيراً، على سبيل المثال.
ولهذه الأسباب جميعها، من المتوقع أن تأتي نسبة المشاركة في هذه الانتخابات منخفضة للغاية، ومن الممكن أن تبدأ بالتوازي معها دعواتٌ سياسية إلى مقاطعة التصويت من أحزاب الحركة المدنية أو غيرها، والتي من الممكن أن يواجهها النظام بتسيير حملات موازية بإجبار العاملين في أجهزة الدولة على الذهاب للتصويت، كما حدث في مرحلة إصدار التوكيلات، أو تهديد المواطنين بالغرامة التي يفرضها القانون على عدم المشاركة. وفي هذا السياق، سيكون المشهد الانتخابي في تلك الجولة مزعجاً للغاية لدى أجهزة الدولة المؤيدة التي سيكون همّها الأكبر العمل على حشد الناخبين في اللجان، وتصوير مشهد إعلامي مختلف عن المتوقّع.