في انتظار أن تستيقظ الجثة

27 نوفمبر 2024
+ الخط -

لا يدري كيف أمضى أكثر من أسبوعين وهو يجلس قبالة هذا الباب البارد الذي لا تطلّ منه أيٌّ من صور الحياة، بل يخرُج منه الموتى تباعاً، ولكنه ظل على أمل أن يسحب الممرّضون سريرها، ويخبروه بأنها سوف تنقل إلى غرفة عادية، ضمن أقسام المستشفى الوحيد الذي ما زال يعمل، فيما جرى تدمير باقي المستشفيات في المدينة، ولذلك لم يكن يعدّ الأيام، بل يعدّ الأحلام والوعود التي قطعها على نفسه، من أجل تلك الراقدة بلا حراك فوق أحد الأسرّة. وفيما تتصل بجسدها أنابيب كثيرة، يخبره الأطباء بأنها سوف تعيش، ولكن بوجه محترق، مع حروق كثيرة في أنحاء متفرّقة من جسدها.

لا يهمّه ذلك كله، فالمهمّ أنها سوف تعيش، لأنها آخر من تبقّى من أفراد عائلته، الذين قضوا جميعاً تحت الأنقاض، وقد أخرج جثّتها بصعوبة، حين عثر عليها بين أنقاض منزل الجيران، ولم يُثر ذلك استغرابه، فقد كان الانفجار فظيعاً، والذي طاول عدة بيوتٍ متجاورة ومتشابهة في المخيّم، وتوقع أن جسدها قد طار، وقد حدث ذلك في صباحٍ باكر، وحين ألحّ على والده أنه سوف يتسلّل بحثاً عن طعامٍ للعائلة، والتي بقيت مع عائلاتٍ قليلة، ولم تبرَح بيوتها، فيما وصلت أوامر الإخلاء مراراً إليهم، ولكنهم كانوا مصمّمين على البقاء، حتى ألقيت نحوهم براميل متفجّرة، في الدقائق القليلة التي غادر فيها، وحين عاد خالي الوفاض، وحيث لم يجد شيئاً يصلُح طعاماً، وجد النيران تشتعل في البيوت المتلاصقة، فدار كالمجنون حولها حتى لمح جسداً يتدلّى من نافذة، وعرف أنه جسد أخته الوحيدة، فقد كان شعرُها الطويل يتدلّى رغم احتراقه، وبدت نحافتها الظاهرة دليلاً أقوى على أنها هي، وحيث كانت تتميّز بهما من باب حرصها على جمالها ورشاقتها.

حملها إلى المشفى بوجهٍ محترق، وظلّ أمام باب غرفة العناية الفائقة لا يبرحها، ولم يعبأ بالعودة لانتشال الباقين ودفنهم أسبوعين، وكلما أخبره الأطباء بأنها تتحسّن، وقف تحت قدميها يحدثها ويعدها بأن يكون لها الأب والأم.

تناهت إليه الأخبار أن الجنود قد أخرجوا الشبان واقتادوهم إلى جهةٍ مجهولة، قبل أن يقصفوا المربّع السكني كله فوق رؤوس الشيوخ والنساء والأطفال، ومنهم والده المسنّ مع أمه وشقيقاته الثلاث. بعد أن انقضى أسبوعان من جلسته المستمرّة أمام الباب البارد، مرّ به ذات صباح شابٌّ يعرفه جيّداً، فقد كان جاره وصديق طفولته، وحين شاهده سأله عمّن ينتظره، فأجابه أن شقيقته الكبرى تقبع بجسد محترق داخلها، وهنا ندت صرخة من الشاب سرعان ما كتمها وقال له وهو يطرق أرضاً إنه قد دفن جميع أفراد عائلته بيديه، قبل أن يلقي الجنود القبض عليه ويعتقلوه أسبوعين، فقد خرج مثله تماماً بحثاً عن طعام، وحين عاد إلى المكان وجد جثث والديه وشقيقاته الثلاث قد تمزّقت تماما، ولكنهم كانوا مجتمعين في غرفة واحدة من بقايا منزلهم. ولذلك لم يجد صعوبة في نقلهم ودفنهم في قبر واحد. أما تلك الفتاة التي فوق السرير فليست شقيقته بل زوجته، وعرف أنها ما زالت على قيد الحياة، وجاء ليراها بمجرّد أن أطلق الجنود سراحه.

نظر الشابّ بقلب منكسر نحو الباب البارد، وتذكّر أنه قد لمح خاتماً في بنصر تلك الكفّ المحترقة، ولكنه لشدة لهفته لم يفكّر أنه خاتم زواج جارته، والتي كانت تشبه شقيقته كثيراً، وأنه لشدة لهفته، ظل متعلقاً بأمل زائف، ولم يفكّر حتى بالعودة إلى الحي، ليسأل عن الجثث التي جرى انتشالها، واكتفى بالمشهد الأخير للنيران التي اندلعت من بين الأنقاض، والتي فهم منها أن أحداً لم يبق حيّاً، وأن عليه أن يبقى متعلّقا بهذا الجسد المحترق، الذي ما زالت تنبض فيه الحياة، ولم يكن يعرف أنه كان في انتظار أن تستيقظ جثةٌ أودعها جارُه القبر منذ زمن.

... ملاحظة: القصة حقيقية

سما حسن
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.