أمّهات فوق العادة في غزّة
عندما يصبح الحزن حالةً مسلّماً بها، ويصبح الفقد المسيطر، والمخيّم على هذا البؤس كلّه، وكأنه سحابة تحوم فوق الرؤوس، فقط سحابة تجعل الأجواء في المكان رمادية، وموحية بأن السماء على وشك أن تبكي، ولكنّها لا تفعل، وتترك البكاء للقلوب التي لاذت بالخيام المهترئة... عند ذلك، ستجد كلّ شيء غير عادي، وفوق العادة، حتى الأمّهات الفاقدات الثاكلات في غزّة، الشاهدات على أبشع مقتلة في التاريخ.
في العادات الفلسطينية تزّف الأمّ ابنها يوم عرسه، فتتقدّم المشاركين تحمل طبقاً من عجينة الحنّاء فوق رأسها، فيما تُغنّي، وتتمايل، وتتأمّل بعينيها ابنها الغالي، الذي شبّ عن الطوق وأصبح رجلاً، واليوم تراه عريساً موشكاً أن يصبح ربّ أسرة، وليبدأ حياة زوجيةً سعيدةً، مع فتاة أصرّ أن تختارها أمّه، لأن كلّ رجل يرى في محبوبته صورة أمّه أولاً، ويرى سعادته القادمة بين يدي امرأة تشبه تلك الأمّ الساهرة اللاهثة بالدعاء له.
جرت العادة أن تضع الأمّ الفرحة بزواج ابنها بعض معجون الحنّاء في كفّه، فيما تنثر فوق رأسه الورد والريحان، وتطلق الزغاريد، وتحفّه بالأهازيج الشعبية المتوارثة. أمّا اليوم، وفي ظلّ المقتلة، التبس الأمر على أمّ الشهيد رزق البلعاوي، الذي ارتقى في مدينة خانيونس قبل أيّام، ولم تُصدّق أن فلذة كبدها قد أصبح محمولاً على الأكتاف من رفاقه، ليس عريساً يُزَف، بل كان مُضرّجاً بدمائه، ولذلك لم تتوقّف عن إطلاق الزغاريد، فيما تلقي ابتسامتها الجريحة على كلّ من حولها، وتحدّثهم والدموع تنهمر أنهاراً من عينيها، عن وسامته ورجولته، وتؤكّد لخالته التي من الطبيعي أن تكون رفيقة الأمّ يوم زفاف ابنها، لأن المثل الفلسطيني قد أكد دوماً أن الخالة مثل الأمّ، فهي تؤكّد لخالته الباكية ممطرة العينين، التي تحتضنها بكلّ أسىً، أن اليوم هو عرس ابنها الذي خرج في يوم ماطر باحثاً عن لقمة عيش فأصابه قصف عشوائي، وأعاده إليها قتيلاً لا عريساً.
أمّا الأمّ التي ذهبت لوداع ابنها الشهيد أمام ثلّاجة الموتى، فطلبت طلباً غير عادي من المحيطين به، وعلينا أن نتخيّل بؤس ما وصل إليه حال أهل غزّة، لدرجة أن تطلب هذه الأمّ ملابس وحذاء ابنها المُسجَّى أمامها لكي تغسلهما بيديها من دمه، وتمنحهما لشقيقه الآخر، لأن هذا الشقيق قد اعتاد أن يرتدي مع شقيقه الراحل ملابس مشتركة، لشدّة فقرهما، ولقلّة ما أصبحا يملكان من متاع هذه الأيام، وبعد أن فقدوا كلّ ما يملكون، في بيت أصبح كومةً من الحجارة.
والأمّ التي فقدت طفلَين من أطفالها، فهي إمّا فوق العادة، وإمّا استثنائية، لأنها بدت متماسكةً على نحو يثير الجنون، أكثر من أن يثير الشفقة، ولأنك سوف تصرخ من كلّ أعماقك كي تتساءل: أيّ رباطة جأش؟ أو أيّ استسلام وصلت إليه هذه المرأة؟ وسوف تكتشف أن البؤس هو المُحرّك لهذه الأمّ، أكثر من الحزن وفجاعة الفقد، لأنها كانت تطلب من المحيطين بها أن يتريَّثوا قليلاً في دفن طفلَيها القتيلَين في قبر واحد، فشقيقتهما، والثالثة من أطفالها، تجود بأنفاسها الأخيرة في غرفة العناية المركّزة، ويوقن الأطباء أنها سوف تلحق بهما خلال وقت قصير، ولذلك عليهم الانتظار حتى يضعوا الأبناء الثلاثة في قبر واحد، فالعائلة فقيرة لدرجة أنها لا تحتمل تكلفة حفر قبر آخر.
هذه المقتلة المستمرّة بكل جنون، وأمام صمت عالمي مُطبِق، تخبرك أن هذا العالم قد فقد حاسَّتَي السمع والبصر، وإلّا لكان قد حرّك ساكناً على الأقلّ، فلا عجب أن هذه المقتلة المسكوت عنها قد أفرزت مثيلات هؤلاء الأمّهات، اللواتي أصبحن يمتلكن مشاعر خيالية، ويتصرّفن تصرّفات غير معقولة عند الفقد، ولا يمكن أن يتصوّرها عقل، ما لم يكن عقل مخرج حاذِق، سوف يضعها ضمن أحداث فيلم درامي طويل، وسوف يجذب المشاهدين، ويستمرّ عرضه لسنين مقبلة، لأن صبر أمّهات غزّة قد فاق خيال الكتّاب والروائيين، وتفوَّق على إبداعهم.