في التوظيف الإسرائيلي لعملية القدس
يوم واحد فصل بين تصنيف بريطانيا حركة المقاومة الإسلامية (حماس) إرهابية وتنفيذ واحد من أبنائها عملية في القدس المحتلة، استُشهد فيها، وقُتل إسرائيلي، وأصيب أربعة آخرون. فادي محمد أبو شخيدم من مخيم شعفاط للاجئين، يعمل مدرسا في المرحلة الثانوية، فضلا عن قيامه بالوعظ الديني. وذكرت تقارير إسرائيلية أنه ينتسب إلى الشقّ السياسي للحركة، لتأكيد إسرائيل صفة الإرهاب عليه إلى جانب الشقّ العسكري لـ"حماس". وحسب التقارير نفسها، كانت زوجة فادي قد غادرت فلسطين إلى الأردن قبل ثلاثة أيام من العملية، وأولاده موجودون خارج البلاد، ما يوحي بأنه كان يرتب للعملية التي نفذها، وهو ما نفته عائلة الشهيد لاحقا، وتأكد بعدما ألقت السلطات الإسرائيلية القبض على ابني الشهيد، وهما طفلان صغيران، واعتقلت الزوجة في أثناء عودتها من الأردن، بعد زيارة والدتها المريضة هناك.
ترتبط ملاحظة أولى هنا بتوظيف المعارضة الإسرائيلية الحدث ومحاولة الضغط على الحلقة الأضعف في التحالف الحكومي في إسرائيل، وهو القائمة العربية في الكنيست، برئاسة منصور عبّاس؛ فقد طلبت المعارضة، وفي مقدمتها حزب الليكود، من القائمة إصدار بيان لا لبس فيه، وخال من أي تحفظات، لإدانة هذا العمل الإرهابي (حسب لفظة حزب الليكود في حسابه في "تويتر")، فأصدر عباس بيانا بالعبرية، (على صفحته في "تويتر")، جاء فيه "طوال عقود مضت، دانت القائمة العربية إلحاق الأذى بالأبرياء من كلا الجانبين، وعملت على منع ذلك، خصوصا حينما يتعلق الأمر بالمدنيين الأبرياء. ولطالما دعت القائمة العربية إلى الحفاظ على قدسية الحياة، وتجنب أيٍّ من أشكال العنف، والسعي إلى العيش معا في سلام وأمن وشراكة وتسامح، ولا يستطيع الليكود أن يقدّم للقائمة ولا لمنصور عبّاس وعظا أخلاقيا".
الشعوب العربية لا تزال تحتفظ بموقفها الداعم للحق الفلسطيني، والرافض للاحتلال
لم يأت بيان منصور عبّاس على النحو الذي طالب به "الليكود"، فلغته قابلةٌ للتأويل وحمّالة أوجه، وهو ما كان يريده حزب الليكود فعليا، حتى يستخدم ذلك في حملته ضد استمرار الحكومة، بدعوى تحالفها مع مؤيدي "الإرهاب"، مثلما اعتادت المعارضة و"الليكود" ترويجه ضد القائمة العربية. وطبقا لرئيس تحرير الأخبار في راديو الناس، والمحلل في القناة 12 الإسرائيلية، محمد مجادلة، أصدرت القائمة العربية هذا الإعلان بالعبرية فقط، موجها إلى الجمهور اليهودي، ولم يصدُر بالعربية خشية أن يكون محل انتقادات من الجمهور العربي والفصائل الفلسطينية. وصادف البيان تعليقات إسرائيلية غاضبة؛ من نوعية "هل مسموح بقتل الجنود إذن؟"، "أنتم لم تدينوا إطلاقا عمليات قتل الجنود ولا العمليات ضد مستوطني الضفة الغربية"، "لماذا يصعب عليك إدانة ما حدث بصورة لا تحتمل التأويل، لماذا تستخدم هذه الصياغة الغامضة؟"، فضلا عن عشرات التعليقات الأخرى التي لم يأت البيان على هوى أصحابها.
وعلى الرغم من ذلك، أدّى البيان، من وجهة نظر أعضاء التحالف الحكومي، الغرض منه؛ حيث حملته على النحو الذي يجعل الموضوع يمر من دون الوقوف كثيرا أمام ألفاظه المطّاطة، وتوجّه مؤيدوها في مقابل ذلك إلى المعارضة عامة، "الليكود" خصوصا، بقولهم إنهم يرقصون على جثث الضحايا من أجل مكاسب سياسية. وفي السياق نفسه، تقدّمت القائمة العربية بدعوى تشهير ضد القناة 13 الإسرائيلية، مطالبة بتعويض 300 ألف شيكل، بسبب تقرير بثته القناة يربط بين القائمة العربية وحركة حماس، واعتبرت ذلك تحريضا ضد القائمة وأعضائها.
أصوات عربية شاذّة تتهم من يقاوم المحتل بالإرهاب، وتتماهى مع موقف الاحتلال والغرب، تمثل البؤس بعينه
ترتبط ملاحظة ثانية بالجندي المقتول؛ إلياهو كاي (26 عاما)، يهودي هاجر من جنوب أفريقيا إلى فلسطين المحتلة، ثم التحق بالجيش ليخدم في لواء المظليين، وأخيرا كان حارسا في منطقة حائط البراق. هاجر إلى فلسطين منفردا عام 2016، ثم تبعته العائلة (والداه، وإخوته هذا العام فقط)، فأصبح هو وعائلته مواطنين كاملي المواطنة في دولة محتلة، بمجرّد وصولهم إلى أرضٍ لا علاقة لهم بها، في وقتٍ يُطرد الفلسطينيون من أرضهم، ويصادر الاحتلال بيوتهم من أجل هؤلاء القادمين الجدد، من دون أن يكون للفلسطينيين الحق في الدفاع عن أرضهم طبقا لما يحاول الاحتلال أن يفرضه، وتدعمه فيه الولايات المتحدة والدول الغربية، وتلحق بهم أخيرا أنظمة عربية اختارت التطبيع مع دولة الاحتلال.
وعلى الرغم من أن الشعوب العربية لا تزال تحتفظ بموقفها الداعم للحق الفلسطيني، والرافض للاحتلال، والمدرك بأن المشكلة، في الأساس، ترتبط بوجود الاحتلال وليس مقاومته، إلا أن ذلك لم يمنع من وجود أصوات عربية شاذّة تتهم من يقاوم المحتل بالإرهاب وتتماهى مع موقف الاحتلال والغرب. إنها تمثل البؤس بعينه، وهي انسلاخ عن الهوية العربية، وعن أبسط قواعد العقل والمواثيق الإنسانية التي تعطي الحق لصاحب الأرض المحتلة بأن يدافع عنها.
ترتبط ملاحظة ثالثة بقرار بريطانيا الذي اعتبر حركة حماس إرهابية؛ وهو موقف ليس جديدا على بريطانيا صاحبة الوعد المشؤوم، خصوصا وأن المقاومة الفلسطينية عامة، وليس "حماس" وحدها، تحرص، منذ سنوات طويلة، على استهداف الجنود الإسرائيليين فحسب، لتبقى محافظةً على صورتها الأخلاقية، متجاوزةً بذلك تلك المعضلة التي ربما كانت تؤثر في شعبيتها في الحواضر العربية، أو تسحب من رصيد احترام غربيين كثيرين لها، حتى وإن لم يستطيعوا التعبير عن ذلك، حين كانت تنفذ التفجيرات في العمق الإسرائيلي.
ولم تكن هذه القرارات لتصدر في الغرب لو كان هناك موقف عربي داعم للقضية الفلسطينية، ولا يمكن أن نتعامل مع مثل هذه القرارات التي تنزع حق الشعب الفلسطيني في الدفاع عن أرضه بمعزل عن التطبيع العربي والهرولة تجاه إسرائيل منذ توقيع "اتفاق أبراهام".