دلالات العجز الإسرائيلي في مواجهة الحوثيين

06 يناير 2025

عمال طوارئ في رمات غان يتفقدون أضراراً بمدرسة بعد هجوم بصاروخ يمني (2024/Getty 19/12)

+ الخط -

تعدّ مشكلة الحوثيين من الأزمات الصعبة التي تواجهها إسرائيل في إطار حربها الحالية، وتنبع معضلة إسرائيل أمام هذا التحدّي من أسباب جغرافية واستخباراتية بالأساس، إذ إن عدم امتلاك الكيان الصهيوني آلياتٍ ذاتية للعمل ضدّ التهديد الحوثي، باستثناء ضرباته الجوية، يجعله عاجزاً عن ردع جماعة الحوثي، خاصّة أن لديه عائقَين كبيرَين أمام جعل هذه الضربات ذات تأثير كبير، أحدهما العمى الاستخباراتي وعدم امتلاكه بنية استخباراتية في اليمن، باستثناء ما تتلقّاه دولة الاحتلال من أجهزة استخباراتية صديقة، وهو ما ينعكس على ندرة المعلومات الدقيقة حول المواقع العسكرية الحسّاسة في اليمن، وأماكن قادة الجماعة هناك، التي يمكن أن تستهدفها غاراتها على اليمن، فضلاً عن إخفاء الحوثيين القدر الأكبر من العتاد العسكري داخل كهوف في الجبال وفي مساحات شاسعة، ما يجعل الضربات الجوية التي تنفّذها في اليمن غير مؤثّرة بالشكل الذي يحقّق أهدافها، بينما يتمثّل العائق الآخر في حجم التكلفة المالية التي تتكبدها جرّاء طلعاتها الجوية لتنفيذ ضربات هي في النهاية محدودة التأثير.
يؤكّد ذلك ما ذكره الباحث في معهد دراسات الأمن القومي داني سيترينوفيتش، في مقال له (1/1/ 2025)، أنه رغم تنفيذ إسرائيل ضربات جويّة على اليمن خلال الأشهر الماضية، فإن ذلك لم يغيّر من الوضع العامّ شيئاً، وواصل الحوثيون هجماتهم على إسرائيل، وجعلوا ميناء إيلات غير قابل للتشغيل نهائياً. ويؤكّد الباحث أن تصعيد الحوثيين حملتهم ضدّ إسرائيل، التي تحوّلت إطلاقاً شبه يومي للصواريخ تجاه تلّ أبيب، أصبح يستنزف إسرائيل في كلّ الحالات، سواء نجحت دفاعاتها الجوية في اعتراضها، أو لم تنجح، لأنها في الحالتَين تؤدّي المهمّة المطلوبة منها، وتصنع حالةَ ضغط كبيرة على ملايين السكّان في تلّ أبيب الكُبرى، بوصول الصواريخ إلى أهدافها، أو سقوط حطامها في دائرة واسعة. ما يزيد من خطورة الوضع في الكيان الصهيوني ما تحدّثت عنه تقارير، ذكرها الصحافي في "يديعوت أحرونوت" إيتامار أيخنر، في مقاله (23 /12/ 2024)، عن تطوّر الصواريخ التي أطلقها الحوثيون أخيراً؛ إذ اتسمت بتقنية متقدّمة غير عادية، واشتملت على نظام يسمح بزيادة كمّية الوقود، وهو ما أعطى الصاروخ القدرة على الطيران فوق الهدف فترة أطول، والمناورة، ممّا يصعّب اعتراضه، حتى إن نظام الدفاع الجوي الإسرائيلي "آرو" لم يتمكّن من التعامل مع هذه الصواريخ.

عدم امتلاك إسرائيل آلياتٍ ذاتية للعمل ضدّ التهديد الحوثي، باستثناء ضرباتها الجوية، يجعلها عاجزةً عن ردع الجماعة

وقد عكست الصحافة الإسرائيلية، وتصريحات عسكريين إسرائيليين، حالةَ الغضب التي يشعر بها الغالبية هناك نتيجة العجز في مواجهة الهجمات الحوثية، حتى إن التصريحات التي أطلقها وزير الأمن الإسرائيلي يسرائيل كاتس حول استعداد إسرائيل "للعمل ضدّ الحوثيين في صنعاء وفي كلّ مكان في اليمن" كانت مصدر سخرية وانتقاد لاذعَيْن. وقد أورد الصحافي في "معاريف" آفي أشكنازي، في مقاله في 23 /12/ 2024، ما ذكره عسكريون أنه كان حرّياً بالوزير أن يتشاور مع العسكريين لوضع خطّة لوقف تهديد الحوثيين، بدلاً من إطلاق هذه التصريحات الجوفاء.
ومن الواضح أن فشل إسرائيل في وقف هجمات الحوثيين والعمى الاستخباراتي لديها دفعا مسؤولين سابقين في أجهزة الاستخبارات للمطالبة بضرب إيران نفسها؛ حتى إن رئيس الموساد السابق ديفيد برنيع أوصى في يوليو/ تمّوز الماضي (2024) بضرورة مهاجمة إيران مباشرة، لأنّها صاحبة الدور الأكبر في تسليح الحوثيين وتمويلهم، وأن توجّه الضربة إلى الرأس لا إلى الجسد، حتى لا تُستنفد الموارد والطاقات الإسرائيلية على الحوثيين. علاوة على ما ذكره مقال أيخنر، المشار إليه سابقاً، من تصريحات قيادات عسكرية إسرائيلية بشأن ضرورة توجيه هذه الضربة، خصوصاً بعد أن تعرّضت إيران لهزيمة استراتيجية كبيرة تمثّلت في سقوط نظام الأسد في سورية، واضطرار حزب الله في لبنان للنزول عند القرار 1701، الذي لم يقبل به في الماضي، وتوقّف المليشيات الإيرانية في العراق عن إطلاق المسيرات تجاه إسرائيل، وبالتالي لم يعد هناك سوى الحوثيين، الذين يعتقد الإسرائيليون أنهم تلقّوا توجيهات إيرانية بزيادة هجماتهم ضدّ إسرائيل. وينتمي إلى هذا الفريق من يرون أن تكثيف الغارات الجوية التي نفّذتها الولايات المتحدة وحلفاؤها على مواقع يمنية في الأيّام الماضية ليس هو التغيير الحقيقي في السياسة الأميركية، لأن التغيير الحقيقي في سياسة واشنطن تجاه هذا الملفّ لن يحدث إلا بعد تولّي الإدارة الجديدة مسؤولياتها، وهذه التقديرات مبنيّة على تقرير نشرته صحيفة وول ستريت جورنال أوائل الشهر الماضي (ديسمبر/ كانون الأول) حول تفكير ترامب وأعضاء من فريقه في ضربات جوية ضدّ المشروع النووي الإيراني من أجل كبح جماح إيران وأذرعها في المنطقة، أو ممارسة مزيدٍ من الضغوط عليها، عبر تشديد العقوبات عليها، وعلى الدول التي تشتري النفط الإيراني، أو التهديد بالاستخدام الفعلي للقوة العسكرية لإجبارها على تغيير سياستها، وسياسة أذرعها العاملة في المنطقة بالتبعية، ومن بينها الحوثيون.
غير أن المهتمّين بهذه المعضلة، وبالبحث عن حلول لها، يعتقدون أن حلّ مشكلة الحوثيين عبر توجيه ضربة لإيران سيكون استراتيجية فاشلة، ولا يرجّح أن يغير حلّ كهذا ديناميكيات المواجهة الحالية بين إسرائيل والحوثيين؛ وقد ركّز مقال داني سيترينوفيتش، المشار إليه، على أن حلّ مشكلة الحوثيين لا يمكن أن يتم عبر توجيه أيّ عملية ضدّ إيران لسببَين؛ أحدهما أن عملاً كهذا سيؤدّي إلى ردّ إيراني في المقابل، وتصعيد واسع النطاق في المنطقة لا تريده الإدارة الأميركية القادمة، والآخر أن أيّ عملية ضدّ إيران لن تقود إلى تغيير نمط العمليات الحوثية؛ إذ إنهم (أي الحوثيين)، يعتبرون أنفسهم مستقلّين وغير خاضعين للتوجيهات الإيرانية، أو بمعنى آخر لم تعد العلاقة بينهم وبين إيران علاقة الراعي بالعميل، كما أنهم ربّما لا يعطون الأولوية بالضرورة للمصالح الإيرانية، بخلاف الحالة في حزب الله. وهنا تحديداً يبدو الحوثيون وكأنّهم يريدون الانضمام إلى نادي اللاعبين الكبار في المنطقة، وتبدو إسرائيل المدخل للعبور إلى هذا النادي، وكسب التأييد الشعبي الداخلي في اليمن، ومن ثم يصبح من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، خلق معادلة ردع معهم، خصوصاً أنهم ليس لديهم كثير ليخسروه.
وفي مقابل اعتقاد المسؤولين الأمنيين ورجال الاستخبارات الإسرائيليين بتراجع التأثير الإيراني في جماعة الحوثي، وتمتّع الأخيرة باستقلال نسبي عن طهران رغم الدعم الذي تتلقّاه منها، فإن الحلول الإسرائيلية تبدو محصورةً في عدّة مسارات، أولها أن تفكّر إسرائيل في زيادة وجودها الدائم في البحر الأحمر، وألا تكتفي بتنفيذ هجمات متفرّقة في اليمن، بل أن تكون ضرباتها مستمرّة فتجبر الحوثيين على الانشغال بالدفاع وليس بالهجوم. وهو حلّ تكتنفه صعوبات لوجستية تتمثّل في عدم امتلاك إسرائيل القطع البحرية الكافية لحماية شواطئها ومواجهة التحدّيات في البحر الأحمر في الوقت نفسه، إذ تمتلك البحرية الإسرائيلية خمس غوّاصات، و15 كورفيت (أربع منها ثقيلة و11 خفيفة)، علاوة على 36 زورقاً سريعاً للدورية والمرور الساحلي. تضاف إلى ذلك تكلفة الطلعات الجوية لتنفيذ الغارات ضدّ الأهداف اليمنية، في ظلّ عدم توفر المعلومات الاستخباراتية الكافية.

حلّ مشكلة الحوثيين بضرب إيران قد يكون استراتيجية فاشلة، لن تغيّر ديناميكيات المواجهة بين إسرائيل والحوثيين

ويرتبط المسار الثاني بالجهود العسكرية والقصف الجوي الذي يقوم به التحالف الدولي، الذي شكّلته الولايات المتحدة لحماية التجارة في البحر الأحمر، والذي تأتي حماية إسرائيل في رأس أهدافه، وهي جهود يجب الدفع باتجاه تكثيفها. أما المسار الثالث، فعلى إسرائيل وحلفائها توجيه ضرباتهم لقيادة الحوثيين، وخصوصاً قبيلة عبد الملك الحوثي، التي يتولّى أفرادها مناصب قيادية عليا، وإشعارهم بالاستهداف المستمرّ. يضاف إلى ذلك أن إسرائيل، وإن كان من الضروري ألا تستهدف إيران، فإن عليها ألا تتوقّف عن استهداف عناصر فيلق القدس في اليمن بقيادة عبد الرضا شهلاني، الذي لعب دوراً كبيراً في بناء القدرات العسكرية للحوثيين. وإلى جانب ذلك أوصت بعض مراكز الدراسات الصهيونية بضرورة تعزيز إسرائيل علاقاتها ببعض الدول الخليجية التي لديها معرفة واسعة بمنظومة الحوثيين، وما يوفّره ذلك من معلومات استخبارية بالغة الأهمية.
هذه المسارات السابقة، التي تحاول إسرائيل من خلالها التخلّص من تهديد الحوثيين، تعني إدراكها عدم وجود حلول سريعة لوقف هجمات الحوثيين، وتكشف في نفس الوقت عدم قدرتها وحدها على مواجهة التحدّيات التي تهدّد وجودها في المنطقة، ومن ثمّ تسارع باللجوء إلى حلفائها والاعتماد عليهم، وهكذا يتحوّل تعاملها مع التحدّيات نمطاً ثابتاً كاشفاً هشاشتها، وقد ظهر هذا النمط في الحرب على غزّة، وفي جنوب لبنان، مثلما تكشفه اليوم مواجهتها للتحدّي الحوثي في اليمن.

أحمد الجندي
أحمد الجندي
كاتب مصري، أستاذ الدراسات اليهودية والصهيونية في جامعة القاهرة، له كتب ودراسات حول الملل اليهودية المعاصرة وأيديولوجيا تفسير العهد القديم.