كيف يحوّل نتنياهو إسرائيل دولةً ديكتاتورية؟
تبدو الفوارق كبيرةً للغاية بين بنيامين نتنياهو العام الماضي ونتنياهو الحالي، وشتّان الفارق بين الوجه العابس لرئيس الوزراء، الخائف، والمشغول بمستقبله السياسي خلال الشهور الأولى من الحرب الحالية، وقناع الزعامة الذي يرتديه حالياً، وكأنما تحوّل منقذَ إسرائيل الجديد، أو مسيحها المخلّص، الذي ينفّذ خططه، ولا يستطيع أحد إيقافه، ولا ردعه عن أن يتحوّل ديكتاتورَ إسرائيل المُؤيَّد من الربّ.
ولطالما تعاملت الولايات المتحدة، والغرب الأوروبي، مع إسرائيل بوصفها الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، ولطالما حاولت دولة الاحتلال ترويج الأمر نفسه، وأنها تعيش وسط محيط عربي استبدادي لا علاقة له بالحرّية. وبغضّ النظر عن أن الكيان الصهيوني ارتبط منذ نشأته بالفصل العنصري، والتمييز بين سكّانه على أساس العرق واللون، فإن حقيقة الاستبداد في العالم العربي هي التي دفعت لتضخيم فكرة أن إسرائيل دولةٌ ديمقراطيةٌ، غير أن وجود نتنياهو في رأس السلطة في الكيان الصهيوني، لما يزيد عن 17 عاماً، كان كفيلاً بنزع هذه القشرة "الديمقراطية" التي كانت تعلو وجه دولة الاحتلال، وتحويلها دولةً قمعيةً. والعام الأخير من حكم نتنياهو، ومنذ انطلاق الحرب الحالية، كان له الأثر الأكبر في تحوّل إسرائيل ديكتاتوريةً بات كثيرون من السياسيين والمفكّرين والإعلاميين في إسرائيل يرصدون مظاهرها، ويعانون منها.
والحقيقة أن المتابع لما يحدث في إسرائيل، منذ بدء هذه الحرب، يمكن أن يلحظَ أمرَين. أولهما أن الحكومة حقّقت مكاسب كبيرة على المستوى الداخلي، فاستطاعت تحجيم المظاهرات الرافضة لأدائها أو المعترضة على أجندتها السياسية والقانونية، وتصوير هذه المظاهرات في وسائل الإعلام التابعة لها تضرّ بأمن إسرائيل، وأن من يحرّكونها أو يشاركون فيها يخونون الدولة، ويقدّمون هديةً مجّانيةً لأعداء إسرائيل، وهذا الخطاب أصبح ينسحب على مظاهرات عائلات الأسرى الإسرائيليين في غزّة، على اعتبار أنهم يفكّرون في مصلحتهم الضيّقة، وليس في مصلحة البلاد.
الظروف الصعبة، التي تعرّض لها نتنياهو في الأيام الأولى لـ"طوفان الأقصى"، دفعته للتخلّص من أيّ ضغوط تُفرَض عليه بدعوى الديمقراطية
أمّا الأمر الآخر فهو أن الحكومة وظّفت الحرب ذريعةً لتسريع تنفيذ مخطّطاتها في السيطرة على مؤسّسات الدولة، وتمكين اليمين من مفاصلها، والتخلّص من معارضي الحكومة عبر تعيين موالين لها في هذه المؤسّسات، بل والتفكير في التخلّص من المستشارة القانونية للحكومة، رغم تعقيداته، وصولاً إلى توزيع الأسلحة على المستوطنين وتحويل مجموعات (ينتمي أغلبها إلى التيّار الديني القومي، الذي ينتمي إليه الوزيران إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش) إلى ما يشبه المليشيا المسلّحة. الأخطر من ذلك، أن جمعية حقوق المواطن في إسرائيل نشرت في 8 أغسطس/ آب الماضي بياناً عن "تحويل بن غفير الشرطةَ أداةً تنفيذيةً يوظّفها من أجل تعزيز سياسته وأجندته السياسية"، وقد شمل ذلك توسيع صلاحيات الشرطة لاختراق أجهزة الكمبيوتر والهواتف المحمولة، وإغلاق وسائل إعلام بدعوى نظام الطوارئ بسبب الحرب.
وهكذا بات اليمين العلماني، المتمثّل في القطاع الأوسع في حزب الليكود، والتيّار الديني القومي، المتمثّل في حزبَي بن غفير وسموتريتش، والتيّار الديني الحريدي، في حزبي شاس ويهدوت توراه، ينظرون إلى معاناة الجيش الصهيوني، في غزّة أو في الجنوب اللبناني، شريانَ حياةٍ لا ينبغي أن يتوقّف، لأن توقّفه يعني العودة إلى الروتين المعتاد الذي كان موجوداً قبل الحرب. وعلى اعتبار أن مصائب قوم عند قوم فوائد، فإن كارثة 7 أكتوبر (2023)، والحرب التي أضرّت باليمين في أوّلها بالنيل من سمعته، ومن قدرته في مواجهة أعداء الدولة، واعتبرتها المعارضة فرصةً لإسقاط الحكومة، والتخلّص من نتنياهو إلى الأبد، هي نفسها الحرب التي وُظِّفت لتمكين قوى اليمين ذاتها، وإعطائها الفرصةَ لإحكام سيطرتها على الدولة، وهي التي عمّقت شعور الجمهور الإسرائيلي بضعف قوى المعارضة.
ومن الواضح أن الظروف الصعبة، التي تعرّض لها نتنياهو في الأيام الأولى لـ"طوفان الأقصى"، دفعته للتخلّص من أيّ ضغوط تُفرَض عليه بدعوى الديمقراطية، وتسريع خطواته لإحكام سيطرته على الدولة، ومن هنا جاءت إقالته يوآف غالانت في وسط الحرب، غير عابئ بأيّ ضغط داخلي من عائلات الأسرى وقادة المعارضة، أو تخوّف من تحفّظ أميركي. وقد دفعت غرابة توقيت الإقالة الصحافي في "هآرتس"، يوسي فرتر، إلى اتهام رئيس الحكومة الإسرائيلية باحتقار الدولة، خاصّةً أن سبباً رئيساً لإقالة غالانت كان عدم موافقته على تقديم قانون إعفاء الحريديم من الخدمة العسكرية لإقراره في الكنيست، وهو ما اعتبره فرتر علامةً جديدةً على استبداد نتنياهو وديكتاتوريته.
أصبحت ديكتاتورية رئيس الحكومة الإسرائيلية عدوىً تطاول كلّ وزير في حكومته
ما يتحدّث به السياسيون الإسرائيليون الحاليون، وكثير من الإعلاميين عن استبداد نتنياهو ليس جديداً، فطبيعة نتنياهو هي استغلال أيّ حدث من أجل البقاء في كرسي السلطة في دولة الاحتلال، فمثلما يستغلّ الحرب الحالية ويطيل أمدها للاستمرار في السلطة، استغلّ من قبل أزمة كورونا في فرض حالة الطوارئ على المحاكم من أجل تعطيل محاكمته في قضايا فساد، في خطوة من خطوات مسيرته الديكتاتورية، وتدمير الديمقراطية في إسرائيل، حسب المحلّل الإسرائيلي، أمير أورن، في موقع والاه.
ويرى أستاذ العلاقات الدولية في جامعتَي تلّ أبيب وكورنيل في نيويورك، البروفيسور أوريئيل أبولوف، أن نتنياهو يقود إسرائيل لتكون دولةً استبداديةً ثيوقراطيةً، وأنه ورجال حكومته يعتقدون أنهم رسل الربّ، أو بالأحرى "آلهة" ضمن مشروع مسياني، وبالتالي لم يعد من الممكن الثقة في أحد غيرهم لإنقاذ إسرائيل، وهم بأفعالهم هذه يقودون الدولة إلى هاوية خطيرة. يؤكّد ذلك أن كلام أبولوف كان في أغسطس 2023 على خلفية ما عرف بالثورة القانونية التي أرادت الحكومة الحالية تمريرها، أي قبل الحرب الحالية. وقد زاد نتنياهو من ديكتاتوريته، وأصبح يحكم إسرائيل لا يعارضه فيها أحد. وحسب وصف الكاتب والمحاضر في القانون، جال لفرتوف، فإن نتنياهو يقود إسرائيل لتصبح دولةً ديكتاتوريةً على غرار روسيا، لكن على نحو مصغّر، أو ربّما نسخة أخرى من كوريا الشمالية، كما أنه يتوجّه إلى أن يكون نسخةً من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وهو في سعيه هذا يقسّم الشعب، ويدمّر "الكيان الصهيوني" في الداخل، حسب لفظ لفرتوف.
وتدل خطوات نتنياهو كلّها على شعور متضخّم بالعظمة، وعدم قبوله أيّ معارضة، ومن ثمّ فإن إقالته وزير الحرب، وتعيين يسرائيل كاتس مكانه، وهو شخص لا يجرؤ على مناقشة أوامر نتنياهو، يتسق تماماً مع طبيعة الأخير في التعامل مع معارضيه داخل حزب الليكود. ويرى الصحافي في "يديعوت أحرونوت"، تسيفر بلوتسكر، أن هذا الإحساس المتضخّم بالذات دفع نتنياهو للظنّ أنه حامٍ للإنسانية كلّها، وليس للإسرائيليين وحدهم، وهو ما عكسه قوله حول خوض الحرب الحالية "في مواجهة محور الشرّ من أجل الإنسانية كلّها"، كما جاء ضمن خطابه في الذكرى الأولى لـ"طوفان الأقصى".
طبيعة نتنياهو استغلال أيّ حدث من أجل البقاء في كرسي السلطة في دولة الاحتلال
وقد أصبحت ديكتاتورية رئيس الحكومة عدوىً تطاول كلّ وزير في حكومته. فوزير الإعلام، شلومو درعي، عمل لتعيين شخصيات لها توجّهات ليكودية واضحة في مناصب مهمّة في وزارته، مثلما هو الحال في هيئة البثّ الإسرائيلية، وهي خطوة هدفها القضاء على استقلال الهيئة وإخضاعها للوزير، وباتت المظاهرات ممنوعةً بحجّة الحرب، وأصبح اعتقال المتظاهرين أو قمعهم، والاعتداء العنيف عليهم، واعتبارهم مكّدِرين للأمن العام والسلم الأهلي أمراً اعتيادياً من "شرطة بن غفير"، أو "مليشيا بن غفير"، كما يحلو لكثيرٍ من الإسرائيليين تسميتها.
وهكذا تتّسع النظرة إلى نتنياهو في إسرائيل على أنه شخص مستبدّ، حتى أصبح يوصف لدى كثير من السياسيين والمحلّلين بـ"الديكتاتور الملعون"، الذي يريد أن "يغلق أفواه أغلب مواطني إسرائيل، وأن يوقف أيَّ نقد شعبي ضدّه"، والذي يعتبر أن الأسرى الإسرائيليين في غزّة (وعائلاتهم) هم العدو الأكثر خطورةً عليه، هو ومؤيّديه. بل إن مسؤولين كبارا في مؤسّسات علمية، مثل مدير مدرسة جيمناسيا العليا (ذات الأهمية الكبيرة في دولة الاحتلال)، زئيف دجاني، نادوا بضرورة "إسقاط الديكتاتور المستبدّ القاتل"، في إشارة إلى نتنياهو.
ما سبق يعني أن نتنياهو، وإن كان ناجحاً في القتل الممنهج للنساء والأطفال، وفي التدمير المقصود في غزّة ولبنان، فإنه ووزراء حكومته (في المقابل)، يعملون لتحويل دولة الاحتلال كياناً قمعياً ديكتاتورياً، وصناعة حالة من الخوف الداخلي، وإظهار ضعف المعارضة وعجزها، وتمزيق المجتمع، وإطلاق يد مؤيّدي اليمين، ومليشيات بن غفير للتحرّش بمظاهرات أهالي الأسرى والمعارضة، وقمعها، وتحويل الجيش مُجرَّد أداةٍ لتنفيذ مخطّطاته ورؤية التيّار الديني القومي. وهذه كلّها، وإن بدت مكاسبَ في نظر قوى اليمين الحاكم، مظاهر ضعف كبير، وعلامات أفول للمشروع الصهيوني الاستعماري.