في "أغلوطة" ماكرون ومتعلقاتها
لا أقصد من هذا القول قط أن أجعل نفسي أحد المنافحين عن دين الإسلام، وأن ألتحق بكتائب النقد والشجب والإدانة التي استنفرتها "القضية" التي أذاعها إيمانويل ماكرون في شأن الديانة الإسلامية. ولن أذهب إلى القول إنها قضية غير عادلة وغير منصفة. قصارى ما أرى الإبانة عنه هو أن أزعم أن القضية التي فجّرها ماكرون تنطوي صراحةً على "أغلوطة" منطقية، أي على قول سوفسطائي، أو "كاذب"، نبّه إليه أرسطو، في كتاب "الأغاليط" من "الأورغانون" قبل خمسة وعشرين قرنا.
لماذا أردّ قولا "سياسيا" إلى قول "منطقي" مبطّن؟ لسببين: الأول، لأن القول ذاته مموِّه أو موهِم و"غير مطابق". الثاني، لأن صاحب القول يطلقه لا بما هو رجل سياسة فقط، وإنما بما هو أيضا "فيلسوف"، فماكرون، السياسي، كان قبل أن يمتطي مركب السياسة فيلسوفا أو متفلسفا يعرف، على وجه التحديد، معنى ألفاظه ومفاهيمه وأحكامه. وهو قبل أن يصبح مليونيرا أو مليارديرا، بفضل "مجموعة روتشيلد"، كان دارسا للفلسفة في جامعة باريس (نانتير)، ودافع فيها عن رسالة لدبلوم الدراسات المعمّقة حول ماكيافيلي وهيغل، ثم أصبح مساعد تحرير لبعض أعمال الفيلسوف المرموق بول ريكور وآخرين.
ماكرون، السياسي، كان قبل أن يمتطي مركب السياسة فيلسوفا أو متفلسفا يعرف، على وجه التحديد، معنى ألفاظه ومفاهيمه وأحكامه
ما هو النص الدقيق لهذه العبارة التي أزعم أنها تضمر قياسا سوفسطائيا، ما زال حيا، يتشبه بالبرهان، ويوهم بالحق، بينما هو "غير مطابق" أو "كاذب"؟ عبارة ماكرون أو قضيته تقول: "الإسلام ديانة تحيا اليوم أزمة في كل أنحاء العالم". لنتأملها جيدا. إنها تصدر عن "سياسي متفلسف". وهي تخص، على وجه التحديد والتدقيق، ديانة الإسلام، لا المسلمين، أعني أنها تتعلّق بماهيةٍ لا بأعيان أو أفراد، أي بمفهوم "ماهوي"، لا بمفهوم "اسميّ"، أي بمفهومين ليس بينهما تجانس، أي إنهما لا ينتميان، منطقيا، إلى الجنس نفسه. هذه "الديانة"، وفقا للعبارة، تحيا في كل أنحاء العالم "أزمة" في فرنسا وأوروبا، وفي أميركا، وفي الصين، والهند، وميانمار، وأفريقيا... وفي كل مكان! ظاهر الكلام صحيح، لكن القول "غير مطابقٍ"، إذ هو يوهم بأن "الديانة الإسلامية" في أزمة، بينما الحقيقة هي أن الأزمة ماثلةٌ في "واقع المسلمين" الذي يتحدّد، في الغالب الأعم، في وجودهم التاريخي الثقافي، لا في وجودهم "الديني العقيدي" أو اللاهوتي الذي يجسّد ماهية الدين وحقيقته. لأن الحقيقة هي أن هذا "الواقع" هو الذي يحيا "أزمة". يحياها في الولايات المتحدة مع ترامب على وجه الخصوص، وفي فرنسا مع تصاعد اليمين وعودة العلمانية الراديكالية القمعية التي تتزيا بزي "الجمهورية" الزائف، وفي الهند الراديكالية الهندوسية والخلاف حول كشمير، وفي الصين الشيوعية وعزل المسلمين وحجرهم ومحاولة "غسل أدمغتهم"، وفي ميانمار والانتهاكات البوذية لمسلمي الروهينغيا الذين لا نفهم كيف يمكن أن يحيوا "أزمة الإسلام"، .. إلخ.
في جميع هذه الحالات، وغيرها، ثمّة وجوهٌ مختلفةٌ للتعدّدية والاختلاف والامتحان والتأزّم، لكن لا شيء في أيٍّ منها يطاول بنية الاعتقاد الديني مما يمكن أن يشي بما ينعت بـ"الأزمة". الاستخدام وحده هو "الموهم" و"المضلل" و"الكاذب". وإذا كان ثمّة "أزمة"، في هذا السياق، فهي ليست في بنية الديانة الإسلامية، وإنما هي في الأوضاع التاريخية، الموضوعية، المشخّصة، التي يحياها من يلحق بهم النعت الثقافي: مسلمون! الذين يحيون في جغرافياتٍ متباينةٍ ليست هي جغرافيتهم الأصلية.
إذا كان ثمّة "أزمة" فهي ليست في بنية الديانة الإسلامية، وإنما في الأوضاع التاريخية، الموضوعية
وأي كلامٍ على أزمة في "الديانة الإسلامية"، أو في غيرها، يجب أن يتوجّه، أولا وآخرا، إلى هذه الديانة في ماهيتها، أو في جوهرها وكينونتها البنيوية، الماهوية، وفي عقائدها الرّكنية، لا في أعراض معاش أهلها وظروفهم التاريخية التي يمكن أن تكون حقا مأزومة. ومعنى ذلك إذا لاحظنا أن "المسلمين" المنتمين إلى ديانة الإسلام، ثقافيا أو عقيديا، يحيون في وجودهم الزمني التاريخي حياة "مأزومة" لا علاقة لها بمجمل العقائد اللاهوتية الرّكنية، فإننا لا نستطيع أن نتكلّم على "أزمة في الديانة" نفسها، والاستنتاج القياسي يكون حينذاك مغالطيّاً كاذبا. وهذا هو بالضبط حال القضية التي روّجها إيمانويل ماكرون، لأسبابٍ لا تخفى على أحدٍ ممن يتابع وقائع الحياة الاجتماعية والسياسية في فرنسا التي تنبعث فيها بقوة روائح اليمين المتطرّف والعلمانية الراديكالية المناضلة التي خلافا لمزاعمها، تتنكّر لمبادئ "الجمهورية"، وتدوس بالأقدام الحرية والأخوة والمساواة، وتوغل في "الاستفزاز"، وفي تمجيد أفعال صانعي "الرسوم المسيئة" وممارساتهم، ووقاحة ثيو فان غوغ وشارلي إيبدو، وأضرابهم ممن يتشبثون بكلا العنفين، اللفظي والوجداني، ويوغلون في الاستفزاز باسم "حرية التعبير"، ولا يأبهون بمبدأ التمييز بين الإساءة إلى "الفكرة" والإساءة إلى "الشخص"، ويجيزون الاثنتين معا، ملحقين الإهانة، في الآن نفسه، بمبدأي الحرية والعدالة كليهما، ومتعللين، في ذلك كله، بمبدأ "قداسة الحرية العلمانية" التي هي حق لهم وحدهم. والحقيقة إن ما يحدث اليوم في فضاءات الغرب، وفي فرنسا على وجه أخص، أن العلمانية الراديكالية تضرب "عقلانية الحداثة" وتفقدها صوابها، وأن العلمانية ترتدّ إلى حدود "الظلامية" الفاقدة للحس والرؤية والحكمة، إذ كيف لنا أن نتمثّل ما يرسله ماكرون، مثلا، من القول إنه سيكرر نشر الرسوم المسيئة، أي إنه سيستأنف الاستفزاز والهجوم والقمع! ما من شك في أن له كل الحق في قمع الذين اقترفوا جريمة "شارلي إيبدو" ومعاقبتهم، أو الذين كانوا وراء الفعلة الشنعاء التي طاولت المدرس صموئيل باتي. ولكن يتعين عليه أن يزم طبعه وغضبه، وأن يدرك أن العلمانية الليّنة الرحيمة، علمانية الحياد، هي وحدها التي تصلح للقيادة في فضاءات الحرية والكرامة وحقوق الإنسان. وأن وظيفته، بما هو رئيس للجمهورية، تلزمه بأن يلتفت، على نحو جدّي، إلى مشكلات الجماعات المهمّشة وقضاياها وحاجاتها، وهي التي تعاني من العوز والإقصاء والحرمان، في الضواحي وفي كل مكان من "الجمهورية".
قد لا ينفع مثل هذا القول في تعديل كينونةٍ باتت مشبعةً بالروح الأوليغارشية الكولونيالية، لكن عقلا متح من الأخلاق الإنسانية التي تمثّلها بول ريكور، وقدّمها على "الشر السياسي"، لا ينبغي له أن يضرب بعيدا في أدغال وفي عقابيل اللوثة الأوليغارشية اليمينية والهوس العلماني الراديكالي من أجل أن يظلّ ممسكا بسلطةٍ تغري بالسير الثابت على طريق الافتئات على مبادئ العدل والحرية والكرامة الإنسانية، أي على "قيم الجمهورية"، وأفدح من ذلك وأعظم أن تغريه "مطاردة الساحرات" في زمنٍ تختلف طبائعه اختلافا عظيما عن طبائع القرن الخامس عشر.