28 أكتوبر 2020
في ظلال التوحيدي وعقابيل الفريضة الخامسة
لي عصبةٌ من الأصدقاء القدامى من زمن الفن الخالد. اثنان ناثران، واثنان شاعران. أما الناثران فهما أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ (159 ـ 255 هجرية)، وأبو حيان التوحيدي (310 ـ 414 هجرية). وأما الشاعران فهما أبو الطيب المتنبي (303 ـ 354 هجرية)، وأبو العلاء المعرّي (363 ـ 449 هجرية). وصداقتي للثلاثة الأوائل أوثقُ وأقربُ من صداقتي لرابعهم، المعرّي، على الرغم من أنني اخترته موضوعاً لمحاضراتي التي ألقيتُها على طلبتي في "السوربون" خلال السنة التي قضيتها أستاذاً فيها. وأنا أفيءُ إلى كل واحدٍ من الثلاثة لعلّةٍ: أما الجاحظ فأذهب إليه حين تستبدّ بي عوارض الكآبة والضيق والضجر، فأطلب قدراً من الهزل ودفع المَلالَة ونشدان متعة العقل والروح وسحر الجميل، تنشيطاً لدورة الحياة في عروق نفسي. وأما التوحيدي فأطلب عنده ما كان يطلبُه لنفسه من الإمتاع والأنس، لما كانت نفسُه تشقى به من البؤس والتعاسة وسوء الحظ وخيبة الأمل في فضاءٍ اجتماعيٍّ عزّ فيه الصديق، واحتلت الغربة والوحشة فيه كل جنباته وأركانه. وأما أبو الطيب فألجأ إليه حين تنخفض عندي شعلة الحياة وفسحة الأمل، فيوقظ فيّ أدبُه بواعث القوة والطموح والعنفوان وتقدير الذات، والعجب أيضاً، حتى يدركني قدرٌ من السكينة والرضى يشدّ أزري في مكافحة أسباب الخور والجبن والعقم، التي تزنّرني بها تباريح الحياة اليومية وشدائدها.
بيد أنني اليوم، في مواسم العمرة وما يليها من مواسم الفريضة الخامسة، أجد نفسي مقوداً بقوة إلى استحضار المعاني الشاخصة لرسالةٍ عجيبةٍ، جعل لها أبو حيان التوحيدي رسماً هو "الحج العقلي إذا ضاق الفضاء عن الحج الشرعي"، وهي رسالةٌ تجمّل محمد أركون برسمها في بعض المراوغات والأحابيل التي جرى عليها، وذهب به تمييزه المكرور بين "الموتوس" و"اللوغوس" إلى أن جعل من "الحج العقلي" "حدثاً قرآنياً"، ومن "الحج الشرعي" "حدثاً إسلامياً"! وذلك في غيابٍ تامٍّ عن مضمون الرسالة وعن فلسفة التوحيدي.
هذه الرسالة مفقودة. وقد زعم بعضهم أنه تتوافر منها نسخة ليننغراد (سانت بطرسبورغ). وفي غيابها، لا يملك أحدٌ أن يقرّر شيئاً يقينياً في أمر محتواها. لكن بعض الإشارات أو
التنبيهات توجّه، على نحو ما، إلى شيءٍ من المضمون، من بين ذلك أن التوحيدي وضع هذه الرسالة عام 380 هجرية، أي عند بلوغه السبعين، واشتداد أزمته الروحية، واستسلامه للوضع الصوفي، وما يترتّب عليه من جنوحٍ عن العالم الاجتماعي، ووقوعٍ في حالة "الاغتراب" المتأصلة عنده من قبل، لكنها عند هذه السنّ بُغت مداها الأقصى، مثلما أن التصوّف نفسه في تلك الفترة قد طاولته تطوراتٌ عميقةٌ، غلب عليها حال "الفناء" بأشكاله المختلفة، والذهاب بالنزعة الروحية التأملية التقوية الصوفية إلى حدود إسقاط "التكاليف"، والعدول عن "الحج الشرعي"، أي المادي، والجنوح إلى مطلق الحياة الروحية. وكثيرةٌ هي الشهادات التي تنوّه بالأتقياء الذين لم يكونوا قادرين على الذهاب إلى مكة، لكنهم اختاروا التوجّه إلى أماكن مقدّسة أخرى، جاوروها وضحّوا أضحية العيد عندها. وتزعم بعض الروايات أن الخليفة المتوكل نفسه قد بنى كعبةً جعل عندها طوافاً! فليس يبعد أن يكون التوحيدي قد "تحرّر" من التقليد الذي ربط الحج بالمناسك والطقوس المادية، ووجّه الفريضة إلى مكانٍ ليس هو مكة، وجعلها ذات طبيعة روحية عقلية.
ثم إن هذه الرسالة قد تكون ذات صلةٍ بما ساقه ابن الأثير في "الكامل في التاريخ"، والخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد"، حيث نقع على وصفٍ دقيقٍ لمحاكمة الحسين بن منصور الحلاج (244 ـ 309 هجرية)، فيها ما عرض من دعوى حامد بن العباس، وزير المقتدر بالله، أن للحلاج كتاباً جاء فيه: "من أراد الحج، ولم يتيسّر له، فليبْنِ في داره بيتاً لا يناله شيءٌ من النجاسة، ولا يمكّن أحداً من دخوله، فإذا كان في أيام الحج فليصُم ثلاثة أيام، وليطُف به كما يُطاف بالكعبة، ثم يفعل في داره ما يفعله الحجيج في مكة، ثم يستدعي ثلاثين يتيماً فيُطعمهم من طعامه ويتولى خدمتهم بنفسه، ثم يكسوهم قميصاً قميصاً، ويعطي كل واحدٍ منهم سبعة دراهم ـ أو قال ثلاثة دراهم ـ فإذا فعل ذلك، قام له مقام الحج".
ليس سرّاً أن الحلاج قد اتهم بالزندقة، وأن ذلك كان مسوّغاً، شكلياً على الأقل، في قتله وصلبه وتقطيع أوصاله، على الرغم من أن ثمّة ما يشي بأن أسباباً سياسية تثوي خلف قتله، تعزّزها واقعة الصلب التي تقترن غالباً بتهمة الضلوع في "الفتنة". وبالتوحيدي أيضاً لحقت تهمة الزندقة، لكن ذلك اقترن بالمذهب الصوفي الذي غلب عليه في عصره القول بالاتحاد أو القول بالحلول، وقد يكون ذلك بسبب هذه الرسالة في (الحج العقلي..).
بيد أننا لا نملك اليوم حين نستحضر "رسم" هذه الرسالة، أياً كان محتواها الحقيقي، إلا أن ننظر إليها بعين الواقع الشاخص، إذ إن الحج، الذي يمثل منزلة الفريضة الخامسة في دين الإسلام، يثير جملةً من القضايا الشائكة التي تلقي بظلالها على الحياة اليومية لمسلمي اليوم.
لا شك في أن هذه الفريضة أقلّ إلزاماً من الفرائض الأخرى، لأنه تم ربطها بالاستطاعة، لكن المؤمنين الذين يحرصون على رضوان الله الكامل، وعلى النجاة الخالصة يتمسّكون بهذه الفريضة في جميع الأحوال والظروف. وكثيرون منهم يوقِعون أنفسهم وذويهم في العوز والحاجة والضنك، من أجل إدراك هذا الثواب المتولد عن أداء الفريضة. وكثيرون آخرون منهم يكرّرون ممارسة الفريضة على نحوٍ يجعل منها فرصةً للاستمتاع، أو ظناً منهم أن ذلك يمحو السيئات والرذائل التي اقترفوها في العام المنصرم! ثم إننا نعلم بكل تأكيد أن الحج في الأزمنة الماضية لم يكن ميسوراً وآمناً دوماً، لا لأسبابٍ ماديةٍ وموضوعيةٍ فقط، إنما أيضاً لأسبابٍ تتعلق بالأمن الذي لم يكن متوافراً في طريق الحاجّ في أحيانٍ كثيرة، إذ كان ثمّة من يعرض للحجيج ويوقع بهم سلباً أو فتكاً، أو يفرض عليهم المكوس ليسمح بالمرور الآمن. والذين كانوا يقضون في طريق الحج، ويلقون الموت جوعاً أو عطشاً أو غير ذلك، كثيرون، والعبارة "مات في طريق الحج" من متداول القول والذكر.
لا شيء من هذا كله وسواه يحدُث في أيامنا هذه، ما خلا بطبيعة الحال ما يتعلق بموت
"الفجاءة" في طريق الحج، أو ما يعرض من أحداثٍ أو أمورٍ غير متوقعة. لكن ثمّة جديد من شكلٍ آخر أو من أشكالٍ أخرى، يعرض ويشخص بقوة في الزمن الذي نحياه في هذه الأوقات. هذا الجديد يجعل طائف التوحيدي ذا معنى ودلالة، أو على الأقل موضوع نظرٍ وتقديرٍ وتفكّر. ففي السنوات الأخيرة، سنوات العقد الثاني من قرننا الحالي، ارتفعت أصواتٌ لا حدّ لها ولا حصر، تلهج بمعانٍ جديدة وبمقترحاتٍ جديدة واعتراضات شديدة تجاوز بعضها "الخطوط الحمراء"، ولُوّح بحلول راديكالية قبالة العقابيل والشدائد التي تشخص في شأن الحج ومتعلقاته. وقد اتخذ بعض "المطالب" صيغة الدعوة الصريحة إلى أن يُناط أمر الحج بمؤسسةٍ "فوق قومية"، أو مؤسسةٍ إسلاميةٍ عالميةٍ يقوم عليها ممثلون لجميع الأقطار الإسلامية. وتعلّل الذاهبون لهذا المذهب بما يعرض لهذه الفريضة من تجاوزاتٍ واختلالاتٍ أصبحت مما لا يطاق، ولا ينبغي أن يُناط بطرفٍ بعينه.
ما الذي حدث ويحدث؟ ثلاث ظواهر خطيرة على الأقل تحكم الواقع الجديد. الأولى: أن الأماكن المقدّسة تتعرّض لحصار عمراني نيو ليبرالي، وأن الدولة تسهم في ذلك. الثانية: أن تكاليف الحج أصبحت مما لا تُطيقه الأغلبية من أبناء الإسلام. الثالثة: أن العامل السياسي يتدخل بشكل سافر.
أما الظاهرة الأولى فقد ولّدت وعياً شقياً عند عامة المسلمين وخاصّتهم، وهم يشهدون عملية التدمير المنهجي للمعالم الأثرية الإسلامية التاريخية، وصعود المجمعات التجارية والسياحية في فضاء هذه المعالم. وأما الظاهرة الثانية، وقد ارتبطت بالأولى، فتجلّت في التكاليف المادّية الفلكية التي بات على الراغبين في الحج مجابهتها، بعد أن نبتت شركات السياحة الدينية التي رتبت عروضها وفق درجاتٍ أولى وثانية وثالثة..، وفنادق متصاعدة النجوم، بدّدت كل معاني المساواة والوحدة والعدل التي تمثّل الفضائل الأساسية لفريضة الحج. وأما الظاهرة الثالثة، وهي أخطرها جميعاً، فإنها تتمثّل في الواقع السياسي المأزوم، وفي دخول الحج طرفاً في جملة التعقيدات والشبهات السياسية التي تعرض لهذا الواقع. وقد يُمكن إجمال هذه "الشبهات" في الوقائع التالية:
في مقدمة المشكل، يشخص هذا الصراع المرير بين "دولة المقر" السعودية، والجمهورية الإسلامية الإيرانية، وهو صراعٌ يُراد له أن يكون صراعاً سنياً ـ شيعياً، أو عربياً ـ فارسياً، لكنه في الحقيقة ليس هذا ولا ذاك، وذلك ما يجعل الحوار متعذّراً. وتزيد الأمر تعقيداً الحملة التي يقودها "التحالف العربي" في اليمن، ووقوع عشرات الآلاف من الضحايا المدنيين في هذا الصراع. ومما ولّده هذا الوضع أن علماء وأفراداً وجماعات ومؤسسات إسلامية، عربية وغير عربية، دعت إلى مقاطعة الحج، لأن أمواله تذهب لقتل المسلمين وإبادتهم في اليمن. وتلحق بذلك قيود الحصار التي فرضتها "دول التحالف" على بعض الأقطار العربية والإسلامية، فكان لذلك آثاره على إنفاذ فريضة الحج وعلى الحرية الدينية نفسها.
وأثار التدخل السياسي المقترن بالتدخل العسكري في اليمن على وجه الخصوص، وما نجم عنه
من قتلٍ ودمارٍ وتشريدٍ طاول مئات الآلاف من المدنيين الأبرياء، موجةً خاصةً من الاحتجاجات بالشجب والإدانة ذهبت ببعض العلماء والدعاة والمثقفين والمنظمات الإسلامية في عدة أقطار عربية وإسلامية، إلى الدعوة الصريحة لمقاطعة الحج، وإدانة استخدام أمواله في قتل المسلمين والتنكيل بهم في اليمن، أو إلى الدفاع عن فكرة الذهاب إلى أماكن أخرى لأداء الفريضة!
وتفاقمت الأمور مع "الابتزاز الأميركي" للدولة السعودية، وإلزام المملكة بـ "دفع" مئات المليارات من الدولارات، زعماً أن أميركا تحميها من الخطر الإيراني المتربّص بها، وأنه لولا هذه الحماية لأصبحت اللغة الفارسية اللغة الرسمية للمملكة خلال أسابيع! واعتقد الكثيرون أن بعض هذه المليارات على الأقل أتى من أموال الحج، التي ينبغي أن تذهب إلى فقراء المسلمين، وإلى الأقطار الإسلامية الغارقة في الديون، بدلاً من أن تذهب إلى الخزانة الأميركية والإدارة التي تحتقر المسلمين.
ولأن أعداداً متعاظمةً من الكتاب والمثقفين والمفكرين والأدباء وعامة الناس وخاصتهم، قد أعلنت مواقفها النقدية قبالة ما يجري، فإن طريق الحج لم تعد سالكةً لكثيرين من هؤلاء. وبات "تعليق الفريضة"، أو العدول عنها وحشرها في باب "عدم الاستطاعة" أو مقاطعة الحج وإزاحته، هو الموقف الذي تعلن عنه أحوال بعض القوم هنا وهناك. مثل هذه المواقف وأشباهها لا ترضي أبا حيان التوحيدي، ولا تقنعه، لأن مذهبه، وهو مذهبٌ في التأويل، يفتح أمام هؤلاء وأولئك طريقاً آخر للحج، هو طريق "الحج العقلي"، بالمجاهدة والتأمل والعبادة وأداء المناسك والتضحية.. "خارج المكان"، الطريق خلافيٌّ جداليٌّ بكل تأكيد، وأكثر من ذلك هو طريق "ثوري" منحدر من زمنٍ سحري.
بيد أنني اليوم، في مواسم العمرة وما يليها من مواسم الفريضة الخامسة، أجد نفسي مقوداً بقوة إلى استحضار المعاني الشاخصة لرسالةٍ عجيبةٍ، جعل لها أبو حيان التوحيدي رسماً هو "الحج العقلي إذا ضاق الفضاء عن الحج الشرعي"، وهي رسالةٌ تجمّل محمد أركون برسمها في بعض المراوغات والأحابيل التي جرى عليها، وذهب به تمييزه المكرور بين "الموتوس" و"اللوغوس" إلى أن جعل من "الحج العقلي" "حدثاً قرآنياً"، ومن "الحج الشرعي" "حدثاً إسلامياً"! وذلك في غيابٍ تامٍّ عن مضمون الرسالة وعن فلسفة التوحيدي.
هذه الرسالة مفقودة. وقد زعم بعضهم أنه تتوافر منها نسخة ليننغراد (سانت بطرسبورغ). وفي غيابها، لا يملك أحدٌ أن يقرّر شيئاً يقينياً في أمر محتواها. لكن بعض الإشارات أو
ثم إن هذه الرسالة قد تكون ذات صلةٍ بما ساقه ابن الأثير في "الكامل في التاريخ"، والخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد"، حيث نقع على وصفٍ دقيقٍ لمحاكمة الحسين بن منصور الحلاج (244 ـ 309 هجرية)، فيها ما عرض من دعوى حامد بن العباس، وزير المقتدر بالله، أن للحلاج كتاباً جاء فيه: "من أراد الحج، ولم يتيسّر له، فليبْنِ في داره بيتاً لا يناله شيءٌ من النجاسة، ولا يمكّن أحداً من دخوله، فإذا كان في أيام الحج فليصُم ثلاثة أيام، وليطُف به كما يُطاف بالكعبة، ثم يفعل في داره ما يفعله الحجيج في مكة، ثم يستدعي ثلاثين يتيماً فيُطعمهم من طعامه ويتولى خدمتهم بنفسه، ثم يكسوهم قميصاً قميصاً، ويعطي كل واحدٍ منهم سبعة دراهم ـ أو قال ثلاثة دراهم ـ فإذا فعل ذلك، قام له مقام الحج".
ليس سرّاً أن الحلاج قد اتهم بالزندقة، وأن ذلك كان مسوّغاً، شكلياً على الأقل، في قتله وصلبه وتقطيع أوصاله، على الرغم من أن ثمّة ما يشي بأن أسباباً سياسية تثوي خلف قتله، تعزّزها واقعة الصلب التي تقترن غالباً بتهمة الضلوع في "الفتنة". وبالتوحيدي أيضاً لحقت تهمة الزندقة، لكن ذلك اقترن بالمذهب الصوفي الذي غلب عليه في عصره القول بالاتحاد أو القول بالحلول، وقد يكون ذلك بسبب هذه الرسالة في (الحج العقلي..).
بيد أننا لا نملك اليوم حين نستحضر "رسم" هذه الرسالة، أياً كان محتواها الحقيقي، إلا أن ننظر إليها بعين الواقع الشاخص، إذ إن الحج، الذي يمثل منزلة الفريضة الخامسة في دين الإسلام، يثير جملةً من القضايا الشائكة التي تلقي بظلالها على الحياة اليومية لمسلمي اليوم.
لا شك في أن هذه الفريضة أقلّ إلزاماً من الفرائض الأخرى، لأنه تم ربطها بالاستطاعة، لكن المؤمنين الذين يحرصون على رضوان الله الكامل، وعلى النجاة الخالصة يتمسّكون بهذه الفريضة في جميع الأحوال والظروف. وكثيرون منهم يوقِعون أنفسهم وذويهم في العوز والحاجة والضنك، من أجل إدراك هذا الثواب المتولد عن أداء الفريضة. وكثيرون آخرون منهم يكرّرون ممارسة الفريضة على نحوٍ يجعل منها فرصةً للاستمتاع، أو ظناً منهم أن ذلك يمحو السيئات والرذائل التي اقترفوها في العام المنصرم! ثم إننا نعلم بكل تأكيد أن الحج في الأزمنة الماضية لم يكن ميسوراً وآمناً دوماً، لا لأسبابٍ ماديةٍ وموضوعيةٍ فقط، إنما أيضاً لأسبابٍ تتعلق بالأمن الذي لم يكن متوافراً في طريق الحاجّ في أحيانٍ كثيرة، إذ كان ثمّة من يعرض للحجيج ويوقع بهم سلباً أو فتكاً، أو يفرض عليهم المكوس ليسمح بالمرور الآمن. والذين كانوا يقضون في طريق الحج، ويلقون الموت جوعاً أو عطشاً أو غير ذلك، كثيرون، والعبارة "مات في طريق الحج" من متداول القول والذكر.
لا شيء من هذا كله وسواه يحدُث في أيامنا هذه، ما خلا بطبيعة الحال ما يتعلق بموت
ما الذي حدث ويحدث؟ ثلاث ظواهر خطيرة على الأقل تحكم الواقع الجديد. الأولى: أن الأماكن المقدّسة تتعرّض لحصار عمراني نيو ليبرالي، وأن الدولة تسهم في ذلك. الثانية: أن تكاليف الحج أصبحت مما لا تُطيقه الأغلبية من أبناء الإسلام. الثالثة: أن العامل السياسي يتدخل بشكل سافر.
أما الظاهرة الأولى فقد ولّدت وعياً شقياً عند عامة المسلمين وخاصّتهم، وهم يشهدون عملية التدمير المنهجي للمعالم الأثرية الإسلامية التاريخية، وصعود المجمعات التجارية والسياحية في فضاء هذه المعالم. وأما الظاهرة الثانية، وقد ارتبطت بالأولى، فتجلّت في التكاليف المادّية الفلكية التي بات على الراغبين في الحج مجابهتها، بعد أن نبتت شركات السياحة الدينية التي رتبت عروضها وفق درجاتٍ أولى وثانية وثالثة..، وفنادق متصاعدة النجوم، بدّدت كل معاني المساواة والوحدة والعدل التي تمثّل الفضائل الأساسية لفريضة الحج. وأما الظاهرة الثالثة، وهي أخطرها جميعاً، فإنها تتمثّل في الواقع السياسي المأزوم، وفي دخول الحج طرفاً في جملة التعقيدات والشبهات السياسية التي تعرض لهذا الواقع. وقد يُمكن إجمال هذه "الشبهات" في الوقائع التالية:
في مقدمة المشكل، يشخص هذا الصراع المرير بين "دولة المقر" السعودية، والجمهورية الإسلامية الإيرانية، وهو صراعٌ يُراد له أن يكون صراعاً سنياً ـ شيعياً، أو عربياً ـ فارسياً، لكنه في الحقيقة ليس هذا ولا ذاك، وذلك ما يجعل الحوار متعذّراً. وتزيد الأمر تعقيداً الحملة التي يقودها "التحالف العربي" في اليمن، ووقوع عشرات الآلاف من الضحايا المدنيين في هذا الصراع. ومما ولّده هذا الوضع أن علماء وأفراداً وجماعات ومؤسسات إسلامية، عربية وغير عربية، دعت إلى مقاطعة الحج، لأن أمواله تذهب لقتل المسلمين وإبادتهم في اليمن. وتلحق بذلك قيود الحصار التي فرضتها "دول التحالف" على بعض الأقطار العربية والإسلامية، فكان لذلك آثاره على إنفاذ فريضة الحج وعلى الحرية الدينية نفسها.
وأثار التدخل السياسي المقترن بالتدخل العسكري في اليمن على وجه الخصوص، وما نجم عنه
وتفاقمت الأمور مع "الابتزاز الأميركي" للدولة السعودية، وإلزام المملكة بـ "دفع" مئات المليارات من الدولارات، زعماً أن أميركا تحميها من الخطر الإيراني المتربّص بها، وأنه لولا هذه الحماية لأصبحت اللغة الفارسية اللغة الرسمية للمملكة خلال أسابيع! واعتقد الكثيرون أن بعض هذه المليارات على الأقل أتى من أموال الحج، التي ينبغي أن تذهب إلى فقراء المسلمين، وإلى الأقطار الإسلامية الغارقة في الديون، بدلاً من أن تذهب إلى الخزانة الأميركية والإدارة التي تحتقر المسلمين.
ولأن أعداداً متعاظمةً من الكتاب والمثقفين والمفكرين والأدباء وعامة الناس وخاصتهم، قد أعلنت مواقفها النقدية قبالة ما يجري، فإن طريق الحج لم تعد سالكةً لكثيرين من هؤلاء. وبات "تعليق الفريضة"، أو العدول عنها وحشرها في باب "عدم الاستطاعة" أو مقاطعة الحج وإزاحته، هو الموقف الذي تعلن عنه أحوال بعض القوم هنا وهناك. مثل هذه المواقف وأشباهها لا ترضي أبا حيان التوحيدي، ولا تقنعه، لأن مذهبه، وهو مذهبٌ في التأويل، يفتح أمام هؤلاء وأولئك طريقاً آخر للحج، هو طريق "الحج العقلي"، بالمجاهدة والتأمل والعبادة وأداء المناسك والتضحية.. "خارج المكان"، الطريق خلافيٌّ جداليٌّ بكل تأكيد، وأكثر من ذلك هو طريق "ثوري" منحدر من زمنٍ سحري.