فلسطين في المنظورات السياسية المغاربية
لم يكن من المثير في الوضع الحالي الذي تمرّ به قضية فلسطين، بالنظر إلى الإبادة المُمَنْهَجَة التي تطبقها دولة إسرائيل على الشعب الفلسطيني في غزّة، أن ينعقد المؤتمر الخامس (21 أكتوبر/ تشرين الأول 2023) لـ"اليسار الاشتراكي الموحّد" في المغرب، ولا تُذْكَر فيه تلك القضية باهتمام كبير، وأن تبرُز فيه أيضاً، بحدّة قصوى، الأصوات المناهضة للتطبيع الرسمي المغربي مع الكيان الصهيوني. وتكفي هذه الإشارة الظرفية المرتبطة بالقضية الفلسطينية للتعبير عن واقعة تاريخية لطالما ارتبَطت بالوجدان الفكري والسياسي للشعوب المغاربية، كما انعكست في الخطط السياسية العامّة التي انتهجتها سُلطاتها الحاكمة فترات طويلة من العمل، بالإضافة إلى أنها كانت مدار توجّهات وأساليب، وفيها مساندة قومية غير مشروطة وتضحيات إنسانية مشهودة.
ويعود الاهتمام المؤكّد والفعلي بالقضية الفلسطينية من الناحية التاريخية إلى زمن التقسيم في 1948 وقيام دولة إسرائيل بموجب القرار الأممي في ذلك الوقت، بالإضافة إلى النتائج الوخيمة التي ترتبت عن الاحتلال وأساليب التقتيل والتهجير التي مارستها العصابات الصهيونية على الشعب الفلسطيني، حين دُفع إلى مناطق الشتات خارج أرضه. مع العلم، بطبيعة الحال، أن القضية برزت للعموم العربي والمغاربي معه منذ وعد بلفور (1917) المشؤوم الذي غرس به الانتداب البريطاني مسمار الوجود الصهيوني في أرضٍ احتلها بالقوة العسكرية، وأخضع أهلها لسيطرته المطلقة، كما هو معروف. ولهذا كانت ردود الفعل الواضحة والمؤثرة ذات طبيعة خاصة، أي إنها خيضت قبل فترة مبكّرة من حصول أغلب الدول المغاربية على استقلالها عن القوة الاستعمارية التي كانت تسيطر عليها وعلى مقدّراتها العامة، وأن النخب التي خاضتها، وقادتها أيضاً، كانت نُخباً محليّة تعبّر، كما كانت تعلن ذلك، من الناحية الإيديولوجية، عن الشعور الشعبي والوطني الناهض الداعي إلى مقاومة الأجنبي، والعمل في سبيل الاستقلال، والتعبير عن التضامن العربي الإسلامي، إلخ.
يمكن أن نلاحظ أن طبيعة التعبير المذكور كانت، في المجمل، دينية، يُقام في المسجد، وفي الشارع بالمناسبة المُقَرَّرة في علاقة بالحدث. ويستند، من حيث الاعتقاد، بصورة خاصة، إلى تأويل من الطبيعة الدينية نفسها تقريباً لما جاء في الكتاب من تصوّرات ومواقف وأحكام، طابعها القَطْع والحدّ، كلها تدين "اليهود"، وتستقبح مواقفهم وتُشَنِّع مراميهم ("لتجدنّ أشدَّ الناس عداوة للذين آمنوا اليهودَ والذين أشركوا"، المائدة 82)، كما تشرح مكرهم ("يا أيها الذين آمنوا لا تتّخذوا اليهود والنصارى أولياءَ بعْضُهُم أولياءُ بعضٍ، ومن يتولهم منكم فهو منهم"، المائدة 51) وتحذّر من أفعالهم ("ولن ترضى عنك اليهودُ ولا النّصارى حتى تتبع ملَّتَهُم"، البقرة 120) إلخ. وهو تأويل ديني راسخ في "اللاوعي الجمعي الإسلامي" ويترجم، في كل موقف مطلوب، على النحو الذي تكون عليه سياسة المواجهة لدولة إسرائيل، ولكنه يتحوّل في هذه المواجهة، عندما لا تفلح في تحقيق النصر، إلى "عاطفة جيّاشة" تستصرخ الانتقام القدري، أو تطلّب الفداء، أو تراهن على الرابطة الأخلاقية الوشيجة ذات الصلة بالعرق أو بالملّة أو بغيرهما... حسب الظروف المختلفة والأوضاع المُعاشة.
الهزائم الشديدة التي تعرّضت لها الثورة الفلسطينية، كانت على الصعيد المغاربي، مثلما كانت في المشرق، إيذاناً بانهيار "الوعي العروبي القومي" في مقابل عودة "الوعي العقدي" في صيغة جديدة
ومما يلاحظ، في هذا السياق، أن الإحالة كانت تتم باستمرار على ما عرف في تاريخ المواجهات الفلسطينية: أولاً، بثورة البُراق (1929) أصلاً وفصلاً، لأنها كانت في الأساس صوت الاحتجاج الفلسطيني، المسلم كذلك، على "تهويد القدس" من الاحتلال البريطاني. ولذلك كان النداء الذي صدر عن "المجلس الإسلامي الأعلى"، برئاسة الحاج أمين الحسيني في تلك الفترة، متضمّناً تلك الدعوة الخاصة، والشاملة أيضاً، لكل المسلمين في العالم لحماية "المسجد الأقصى والأماكن الإسلامية المقدّسة". ثانياً، على ما اتسمت به الثورة القسّامية (1936-1939) بعدها من مستويات، وبالخصوص لأنها كانت ثورة منظّمة (العصبة القسّامية) ولها دعوات وشعارات صريحة "ضد الانتداب البريطاني"، كما أنها راهنت على الروح القتالية المُلَهِّبَة بوضوح سياسي وإيديولوجي (الدين الإسلامي كذلك) له تلك القدرة على إنهاض العواطف واسترخاص التضحيات.
ويبدو أن التفاعل العاطفي والسياسي، بناءً على هاتين الإحالتين، وباعتبار الشعور الديني كذلك، كان في بعض مناطق العالم العربي، والمغاربي معه، مسانداً، فاعلاً في حدود، مؤثّراً في الوعي، ويولد شعوراً بالمسؤولية تجاه القضية، وهو على مستوى الذاكرة، السياسية منها بخاصة، يعطي للتضامن الفعلي، حسب قوة المواجهة المرتبطة بالحدث، الأهمية القصوى وطابع الوجوب في الإسناد والدعم والمشاركة المباشرة، إلخ.
وسيصبح ذلك كله، في سياق التطوّر العام الذي مرت به القضية الفلسطينية، باعثاً ومؤشّراً على ما أسميها الانعطافة الكبرى التي حوَّلت مجرى الفهم والتعاطف والاهتمام كلاً، لأنه أصبح، في الواقع، مباشراً وعملياً، ولعلّه ظهر بقوة، من الزاوية التاريخية، في ارتباط بحرب فلسطين (1947–1949) وبروز الاهتمام العربي بالبعد الفلسطيني في تحديد السياسات العامة والخاصة في منطقة الشرق الأوسط، لا في علاقة بالاستعمار القديم فحسب، بل وكذلك في مواجهة مع المخطّطات الجديدة التي كشفت عنها تطوّرات الأحداث، والنتائج المباشرة التي نجمت عن الحرب المذكورة وعن التقسيم نفسه (إسقاط الملكيات والإمامة على سبيل المثال).
القضية الفلسطينية حين خرجت إلى العلن بمشروع الثورة الشاملة عبّرت، في حقيقة ما كانت عليه، عن خروجٍ أكبر تمثل بالتحرّر من "الطوق العربي التقليدي"
وأعني بهذا أن "تقسيم فلسطين" أصبح، لأول مرة، لطابع "الشرعية الدولية" القائم عليه، عنصراً جوهرياً غيّر، على نحو ذي دلالة، مفهوم الدولة الوطنية المستقلّة في المواجهة ومتطلبات تغيير الأمر الواقع، على مستويين استراتيجيين مهمّين: في علاقة بالثورة الفلسطينية الوليدة، حين تشكّلت بناءً على عمق استراتيجي يقاوم الاحتلال ويرمي إلى التحرير، وفي علاقة بالسياسات الداخلية المنتهجة من سُلطات الدول الوطنية ذاتها، بناءً على المعتقد الاشتراكي العروبي (مصر وسورية والأردن، ثم لبنان فيما بعد)، وتجليه في الدول المغاربية بذلك الاستفراد البراغماتي المبنيذ على تصوّر آني للمصلحة التي يمكن أن توفّرها الثورة الفلسطينية لأنواع أخرى من الصراعات القائمة في مجتمعاتها، هذا فضلاً عن التبرير المتهافت الذي صاحب ذلك بالصيغة الجغرافية (المغارب في مقابل المشارق) المبطّنة بالحذر السياسي، أي: البعد عن موطن الصراع.
سنلاحظ، في هذا الإطار الجديد، كيف أصبحت النخب المغاربية، بعد استقلال بلدانها على فترات متقاربة، أكثر اهتماماً بالقضية الفلسطينية من زاوية خاصة، فتأسّست لهذا لجان للمساندة في مختلف البلدان المغاربية، وأخرى لجمع التبرّعات وتوفير الدعم المتواصل... حين لم تكن الدولة (المغرب، موريتانيا، تونس) على الإيقاع نفسه من الحماسة التي يتطلَّبُها الدعم. وفي أحيان أخرى، تَوَلّت سُلطات الدولة الوطنية (الجزائر، ليبيا...) هذا العمل بِنَفَسٍ أكبر وخطط استراتيجية أقوى، وقدرة على الاحتواء وإملاء اختياراتٍ "طائفية" أو حزبية أو إيديولوجية، أقدر على توجيه النضال السياسي نحو الأهداف القومية ضمن تصوّر وحدوي قطباه المتنافسان: الناصرية والبعثية. وربما كان المُحدّد الأكبر لذلك كله هو الانحياز الذي أعلنته
البلدان المغاربية، على ما بين نُظُمِها من تناقض، إلى التصوّر العام الذي تبلور في مؤتمر القمّة العربية بالخرطوم في (29 أغسطس/ آب – 1 سبتمبر/ أيلول 1967) المسمى مؤتمر اللاءات الثلاث (لا سلام مع إسرائيل، لا اعتراف بإسرائيل، لا مفاوضات مع إسرائيل).
أصبحت النخب المغاربية، بعد استقلال بلدانها على فترات متقاربة، أكثر اهتماماً بالقضية الفلسطينية من زاوية خاصة
ويعني هذا، بصورة خاصة، أن القضية الفلسطينية حين خرجت إلى العلن بمشروع الثورة الشاملة عبّرت، في حقيقة ما كانت عليه، عن خروجٍ أكبر تمثل بالتحرّر من "الطوق العربي التقليدي" الذي كان لمصر، فضلاً عن القوى التقليدية الفلسطينية، الدور الأكبر في سياسة القضية طوال سنوات. وهو ما كان له الانعكاس الواضح مغاربياً على مستويين تحديداً: حزبياً في علاقة خاصة مع "القوى الوطنية والتقدّمية" بمزيد من الارتباط، ولأنه فتح في وجه نضالها المحاصر، على نحو ما، أقفال "المشروعية" المصادرة. ورسمياً، بخروج النظم المغاربية بمواقف متناقضة لم تعد تلتزم على أي نحوٍ المقرّرات الجماعية التي سُنَّت من قبل (ومنها وجوب الاعتراف بدولة إسرائيل كما طالب بذلك الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة، الدور المغربي بعد 1973 في إيجاد الروابط وتسهيل الحلول والوصول إلى التطبيع، تحوّل الجزائر إلى داعم رسمي للفصائل الكبرى واستخدام تلك الفصائل في الصراع المغاربي ضد دول بعينها، فضلاً عن الانحياز إلى "جبهة الصمود والتصدّي" أيام الانقسام العربي، وسوى ذلك).
ولكن الذي لا يُقال عادة في الخطابات المتداولة، من دون الإشارة إلى أيٍّ منها، ولا إلى مبرّراتها السياسية أو الإيديولوجية ذات الطبيعة البراغماتية، أن الهزائم الشديدة، قوة وعنتاً، التي تعرّضت لها الثورة الفلسطينية، رغم قيام الدولة، بِمُوجَب اتفاقيات أوسلو، على أشبار من الأرض المقتطّعة من الضفّة الغربية، كانت على الصعيد المغاربي، مثلما كانت في المشرق، إيذاناً بانهيار "الوعي العروبي القومي" وأزمته المستحكمة في كثير من البنيات، في مقابل عودة "الوعي العقدي"، في صيغة جديدة لم يتغيّر تأويله الديني، بالاستفادة الممكنة أو بالدعم التلقائي من الحلفاء، لواقع الصراع، وربما أيضاً، لطبيعة المواجهة وأهدافها التي يجب أن تُخاض. وإني لأرى هذا في تعبيره الماكر عن مرحلة مختلفة تتسم بـ"نهضة" متجدّدة للحركات الإسلامية جميعاً، وذلك في مناخٍ من الانهيار والأزمات التي أصابت القوى الوطنية واليسارية هنا وهناك. فهل صارت بديلاً لها كما تَبَيَّن في مختلف المظاهرات التي احتشدت في العواصم المغاربية والعربية ضد المحرقة الفظيعة التي ينفذها جيش الصهاينة في غزّة؟