هل المغرب قوّة إقليمية؟
الحديث عن قوّة المغرب مفترض أنه ينهض على مزاعم "شخصية" يبلورها أصحابها، في أحيانٍ كثيرة، في ارتباط بظرفية ممتدّة في الزمن، تنبني على ثلاثة سِجِلَّات قد تكون متداخلة: أولاً، المشاريع التنموية، ذات الطبيعة الإصلاحية، المسطّرة في برامج الحكومات المتعاقبة (وقد تعجز عن تحقيقها كلها أو بعضها)، وَتَرِدُ، بوضوح أكبر، في الخطب الملكية المتعلقة بالتنمية في العموم، أو بمجالات مخصوصة، وإشاراتٍ إليها وَرَدَت في "النموذج التنموي" من زاوية التقويم والتشخيص. ثانياً، القضية الصحراوية التي تحوّلت، في السنوات الأخيرة، من موقع الدفاع العام إلى الهجوم الخاص الذي يبرّره احتدام الصراع ضد الدولة الجزائرية، وبعض الدول الأخرى الموالية لأطروحتي الانفصال وتقرير المصير، هذا بالإضافة إلى انتهاج المغرب سياسة منفتحة مكّنته من اقتحام فضاءات كانت مغلقة في وجهه، أو هَجَرَها من تلقاء سياسته، مع المراهنة على تَحْشِيدِ الدعم الدبلوماسي والسياسي، إلى جانب التقدّم الملحوظ في التعاطي مع القضية على صعيد الأمم المتحدة والقرارات الصادرة عنها في ما يتعلق بمشروع الحكم الذاتي. ثالثاً، "المخطّط" الدبلوماسي المصحوب بالاستثمار الاقتصادي، الذي يتحول تدريجياً إلى أسلوب في الضغط السياسي قصد الإقناع أو الإلزام، من دون أن يكون مجدياً، باستراتيجية ذات طابع هجومي (معي لا ضدي)، على قاعدة المصلحة الوطنية الخاصة... قد نقول: من خلال معادلة "تفعيل" التوتر و"استعجال" الحسم، والقضية الصحراوية هنا هي العنصر البارز في المعادلة، مع ما يترتّب عنها، بطبيعة الحال، من تناقضاتٍ لا يتوقعها صنّاع تلك الدبلوماسية على الصعيد الدولي، وفي العلاقات الثنائية، أو على الصعيد الإقليمي.
المغرب الرسمي إذا ما تحدّث لا يتحدث عن القوة، بل عن التطورات والوقائع والمخططات الاقتصادية من خلال الخطب الملكية، كما جاء أعلاه، وأحياناً من خلال البيانات الوزارية، إلخ. ولذلك، يمكن القول إن الحديث عن القوة استنتاج ملاحظين (مراقبين)، أو نشطاء، أو أجهزة، لأنهم من يفترضون، من مواقع مختلفة، للممارسة السياسية والاجتماعية أفقاً وتصوّرات ومواقف تجعل المغرب في قلب صراع إقليمي محتدم، أو في قلب تحوّل اقتصادي واجتماعي نوعي، أو في حركة دبلوماسية في ضوء ما تفرضه القضية الصحراوية من متطلبات.
كذلك، يترافق الحديث عن القوة مع حالة من "شعور" متضخّم بـ"العزّة الوطنية"، أو ما يمكن تسميته "الأنا الوطني الشوفيني"، من الصعب أن ننكر عليه ما يستند إليه في التأمل، وفي التأويل، من عناصر تاريخية وسياسية وإيديولوجية تمظهرت أغلبها، بصورة ملحوظة، في العشرية الأخيرة في علاقة مباشرة بما انتهى إليه ما سمّي الربيع العربي... فرأينا كيف أسقِطَت أنظمة وكيف دُمّرت أوطان بصورة رهيبة ومفزعة تخيف جميع الماسكين بالعقائد المطلقة والشمولية.
انتهاج المغرب سياسة منفتحة مكّنته من اقتحام فضاءات كانت مغلقة في وجهه، أو هَجَرَها من تلقاء سياسته
أضيف إلى ذلك أنَّ النموذج التنموي، الذي كان مدار مناقشات واستشارات عمومية، من خلال التشخيص الذي قام به لبعض البنيات الاقتصادية والاجتماعية، بصرف النظر عن أسلوبه وطريقته، يكذّب، في جانب كبير من مقترحاته، مختلف الادّعاءات الوهمية التي يتعلق بها من ينافح عن "الأنا الوطني" بحميّة زائدة، وهو لا يصوغ، في الواقع، إلا نوعاً من التعبير الإيديولوجي المقلوب عن ضمور "الوعي النقدي"، وغلبة التصوّر الديني الحامل لمثالية الأفراد وأحلامهم الخاصة، وكذا للهيمنة التي تمارسها الدولة "الدينية" من خلال الاختيارات غير الديمقراطية التي تنتهجها في مختلف مجالات التطوّر والنماء.
مجمل القول أن مفهوم "قوة المغرب" الوارد في بعض الخطابات الإيديولوجية، وفي أكثرها إثارة من الناحية الإعلامية، لا أراه إلا من خلال مستويات ثلاثة، من حيث الدوافع والاهتمام والأهداف: السياسي العام، من خلال الدبلوماسية والإعلام، إلى ما فيهما من مواقف وتصورات. الاقتصادي، من حيث المظاهر والإصلاحات الجارية والتوقّعات المنتظرة. الإيديولوجي، وفي العمق منه ما أسميته "الأنا الوطني الشوفيني"، وأصحابه ينعتونه بـ"الموري"، والمغرب في اعتقادهم "قوة إقليمية نافذة".
لقد ظهرت هذه المستويات وتقوّت في ارتباط مع الأوراش الملكية المنزلة، وفي تواشج مع الإيديولوجيا الإسلاموية، الشعبوية التي أعلت من طبيعة "الهوية الذاتية"، ولكن أيضاً من خلال وسائل التواصل الاجتماعي والدور الذي تقوم به في صياغة "الوعي الجماعي". بل يمكن القول إن المستويات المذكورة، وهي تتبلور سريعاً في صيغ إيديولوجية مع تطور قضية الصحراء وتحدّيات الجِوَار، هي عنوان العهد الجديد منذ بداية الألفية الثالثة، والصيغة التي تتلاءم معه للدفاع عن الطموحات التي يعمل من أجلها في مجالات مختلفة، وعلى الصعيد الإفريقي بوجه خاص، والمتوسّطي في حدود. يزكي هذا التصوّر أن الخطب الملكية، المتعلقة بـ"استراتيجية مغرب 2050" أصبحت، منذ فترة بعيدة، بمثابة نقد مناسباتي لقضايا التطور في البلاد، ومقترحاتها مراجع وإحالات للتغلّب على الأوضاع الاستثنائية القائمة فيها كذلك.
مصادر الثروة في المغرب محدودة، لا تستجيب لحاجياته المتنامية مع تزايد عدد السكان والإكراهات الدولية والطبيعية
يلفت الانتباه إلى أن القائلين بـ"قوة المغرب" هم، في الغالب، إعلاميون وسياسيون يعملون، مستغلين في ذلك وسائط متنوعة، في سبيل الإقناع بخطاب يرمي إلى جعل القوة، في كونها مفهوماً، عنصراً مركزياً في التفكير العام، وذلك لمواجهة الاتهامات الرائجة في الداخل وفي الخارج (حقوق الإنسان، و"المتاجرة" بالهجرة العلنية والسرّية، إلخ) إلى جانب التحدّيات المفروضة من الدولة الجزائرية (وتحالفاتها العربية والإفريقية...) في إطار المنافسة الإقليمية. وخصوصية الاتهامات أنها تنتقص من الادّعاء الديمقراطي المعلن (إلى جانب شعارات أخرى ارتبطت بتجارب "العدالة الانتقالية")، بينما التحدّيات تزيد المغرب عنفاً في المواجهة (التسليح وغيره)، وتخلق شرطاً استثنائياً يعرقل، في حدود معيّنة، الطموحات التي يسعى لإنجازها لو توافرت له مبدئياً ظروف سلمية أكبر، ولا يمكن أن يكون التحالف (بصيغة المشترك الإبراهيمي مثلاً) إلا استقواءً بالغير للتموقع في مخطّط مضاد.
لا يأخذ القائلون بـ"قوة المغرب" بالاعتبار، بسبب العمى الإيديولوجي، أن رمزية المعنى و"فصاحة" الادّعاء، يتناقضان مع الحقائق العامة التي يعرفها المؤرّخون والاقتصاديون وعامة المشتغلين بالبحث والمعرفة، تلك المتمثلة بشكل خاص بالآتي: أولاً، مصادر الثروة في المغرب محدودة، لا تستجيب لحاجياته المتنامية مع تزايد عدد السكان والإكراهات الدولية والطبيعية، ولذلك كيَّف اقتصاده حسب طبيعة الإنتاج والقطاعات المنتجة الموجهة للتصدير. ثانياً، إن الاقتصاد المغربي يعتمد كلياً تقريباً على القطاع الفلاحي (بعد ما يزيد على 60 سنة من تاريخ الاستقلال ما زالت نسبة النمو تعتمد على المتغيّرات المناخية). ثالثاً، مع الإشارة إلى عامل هيكلي يتمثل بعدم التوافق، الملاحظ من المختصين، بين العرض والطلب على اليد العاملة، ما يجعل البنية الاقتصادية ضعيفة إلى متوسطة المردودية والقيمة، وهو ما ينعكس على القدرة المفترضة لاحتواء عطالة الشباب (أزيد من 25% حسب أرقام "المندوبية السامية للتخطيط"). رابعاً، والأهم من ذلك كله، أو هو نتيجة له: تأخّر (وتخلّف) البنى الاجتماعية والأوضاع المتردّية لعامة الفئات المتضرّرة من ذلك، وهي كثيرة ومُفَقَّرة. زد على ذلك أن الهدف المعلن للتقليص من حجم الفقر والتغلب على الأمية في البادية والمدن لم يحقّقا، رغم المجهودات المبذولة، شيئاً كثيراً بعد مرور سنوات طويلة ومؤلمة من تجارب التنمية غير المنتجة.
الهدف المعلن للتقليص من حجم الفقر والتغلب على الأمية في البادية والمدن لم يحقّقا، رغم المجهودات المبذولة، شيئاً كثيراً
مجمل هذه الأوضاع، وهي مستخلصة من طبيعة التوجه الاقتصادي، والنتائج التي يحققها على صعيد المجتمع، تقود، في العموم، إلى ترسيخ البنية التبعية للاقتصاد المغربي، وتعرقل تطوير بناه الاجتماعية والإنسانية في الاتجاه الذي يخدم التنمية المستدامة على أكثر من صعيد، وبخاصة في ما يرجع إلى تحقيق العدالة الاجتماعية. وهي بهذا كوابح بنيوية قد لا تؤهل المغرب لخوض غمار المنافسة القارّية أو الإقليمية على الوجه المطلوب... من دون الحديث عن الأوضاع "الديمقراطية" المعلنة التي قد تؤثر في ذلك، فتجعل "أهلية" المدافعين عن القوة أضعف من الخطاب التعبوي اللاهب الذي يتلهون بمزاعمه.
وعلى هذا، يمكن القول إن "الشعور الوطني"، وفي طياته مفهوم القوة الإقليمية، يجب أن يكون شعوراً بالحاجة إلى التقدّم، لا الإحساس الذاتي بواقع التخلف، أو الرغبات الخاصة (الشعورية والوجدانية والإرادوية) المرتبطة بضرورة تجاوزه بطريقة وهمية، اعتماداً على الصيغ الإيديولوجية الرامية إلى التغليط. ومن المفهوم من هذا أن المعنى الحقيقي والرشيد للقوّة الإقليمية في تجارب الدول والشعوب يعتمد أساساً على اقتصاد قوي ومتطوّر، ومجتمع ينعم بالازدهار والسلم، وديمقراطية عمادها دولة الحقّ والقانون.