السلطة والمجتمع في البلدان المغاربية
نُسِجَت الطموحات الوطنية المغاربية، التي تشكّلت في فترات التحرير الوطني (المبني على التصوّر الاستقلالي مبتغىً)، خصوصاً بين السنوات الأولى للثلاثينيّات من القرن الماضي إلى نهاية الخمسينيّات، بناءً على أمرَين متداخلَين، ظهور "الحركات الوطنية" المكوّنة من النخب المحلّية، مدينية في الغالب والأكثر استعداداً، من الناحيتَين الثقافية والسياسية، للانخراط في شؤون مجتمعاتها بوعي ديني وسياسي متبلور، ثمّ كان الاتصال المؤكّد، وهذا هو الأمر الثاني، بالأجنبي (المحتلّ، المسيحي، الغازي، المستعمر...) عنصراً من العناصر المهمّة التي بُنِي عليها التناقض الفاصل الذي قاد (فيما بعد) إلى ما عرف في أواخر الخمسينيّات وبداية الستينيّات من القرن الماضي بالاستقلال، الذي سمّاه بعضهم شكلياً، أو التحرّر من الأجنبي، الذي رآه آخرون غير تامٍّ، أو استرداد السيادة التي وجدها بعض ثالث منقوصةً، مع ما ترتّب على ذلك من تعريب الإدارة جزئياً، وبناء اقتصاد شبه رأسمالي، وتنظيم الجيش على أسس تستجيب في العموم للمنظورات التي اعتمدتها السلطات الوطنية لفرض التحكّم والاستقرار والولاء الوطني.
أكثر من ربع قرن في مختلف التجارب المغاربية، فيها انتقال من القبيلة إلى المدنية الحديثة، ومن التقليد بصورة عامّة إلى الحداثة بصورة أعم، ومن النظام الاقتصادي المبني على التبادل الحرّ والاكتفاء الذاتي، إلى الرأسمالية التبعية، ومن الزوايا والتجمّعات الدينية إلى الأحزاب المنظّمة، ومن المقاومة المدنية والمسلّحة إلى الاستقلال المُدَّعَى.
هذا هو المستوى الأول من أطروحة تدرّج صاحب هذه السطور في عرض عناصرها العامّة، من البسيط إلى المركّب، في مسار تصاعدي عرف تحوّلات ومواقف كثيرة، على أساس من التفاعلات مبدؤها هو التناقض الرئيس، أو لنقل عنه الكبير، للانزياحات التي كانت في دوائره، بين المستعمر والوطني (الأجنبي والمحلّي، الغازي والمنكسر)، وعندما نلحق بهما صفات أخرى، اندمجت فيهما، فلا بد أن يظهر لنا التناقض في بعده الديني أيضاً، لا يمكن أن تُفهم ردّات الفعل التي نتجت عن التناقض إلّا به، أي المسلم في مواجهة المسيحي، لأنه كان فرنسياً وإسبانياً وإيطالياً، بالضرورة التي قرّرتها القسمة الاستعمارية المتحالفة، أو المسيحي في مواجهة المسلم، لأنه المغربي أو التونسي أو الجزائري أو الليبي أو الموريتاني بالأغلبية شبه المطلقة تقريباً. على أن المواجهة كانت حربيةً وبالسلاح، وفيها المنتصر والمنهزم، ولكنّها كانت في الوعي والأفهام بمثابة الصدمة التي حرّكت الشعور والوجدان، وَقُيِّض لهذا التحريك أن يكون استفاقةً مهمةً تولّدت منها ردّات فعل مختلفة، مورست في شروط غير مناسبة، وفي ظروف استثنائية كذلك.
كان بناء الاستبداد على علاقة مباشرة بطبيعة النظام السياسي، وبطبيعة الصراعات التي قادتها القوى التي عارضت السلطة المطلقة
برز الوجه الآخر لأطروحة الكاتب (لنقل مستواها الثاني) في السيرورة التاريخية التي سارت فيها البلدان المغاربية بعد فترة (الاستقلالات) الوطنية، في علاقة باسترداد الهُويَّة والتمكّن من السيادة الوطنية. على أن هذه المرحلة، انطلاقاً من ذلك، كانت بمثابة (حلبة) للتنافس على المصالح والمغانم، حفّزت مختلف المتنافسين، ضدّاً على التوافق الممكن أو المستحيل، للقيام بالسباق الضروري المتاح طمعاً في جني المنافع التي ترتّبت على المرحلة الجديدة، والمهم أنها لا تملك لبلوغ الهدف من السباق إلا الغلبة (التفوّق والانتصار) المصطنعة ضمن مفهوم الصراع الذي تبنته، وفي ممارسته كما انتهجته. ويمكن القول إن الهدف الأسمى من ذلك كلّه السيطرة بالدرجات المختلفة على المجالات الحيوية (إنتاجية وغير إنتاجية) الموجودة في البلاد. ولم يكن ذلك ليتحقّق إلا بفضل تسخير الدولة الموروثة، والتحكّم في نظامها السياسي القائد. ويمكن الاستنتاج أن القوة التي استخدمتها الأطراف المتصارعة في الساحة الوطنية كانت في حقيقة الأمر امتداداً للمقاومات (المدنية والمسلّحة)، التي دبّرتها النخب السياسية ضدّ "الحماية الاستعمارية"، بحسب خصائص كلّ بلد، وطبيعة قواه السياسية والاجتماعية الفاعلة، إلى جانب النظام، الذي يشخّص مفهوم الدولة الشرعية ذات البُعد التاريخي.
أصبح التناقض البارز، المتولّد عن بلوغ الاستقلال... إلخ، انقساماً على الذات الوطنية، فكشف حجم القوى المتصارعة ومستوى أدائها، وأهدافها ومصالحها، والأساليب التي تنتهجها لتحقيق ما تصبو إليه. أمّا ما نتج من ذلك فكانت حصيلته؛ تركيز السلطة الفردية المطلقة (أتوقراطية ويعقوبية تحكمية) ضداً على الديمقراطية؛ الاستغلال الخاص للثروات الوطنية الموجودة ضدّاً على توزيعها العادل؛ الاستقواء بالجيش لفرض الهيمنة المطلقة على المجتمع بأتمه. وللمرّة الأولى في تاريخ الدول المغاربية، ولم يكن قد مضى على تاريخ الاستقلالات الوطنية إلّا بعض الوقت، أخذت في البروز بعض التعبيرات السياسية، وهي في الأصل حركات منظّمة ذات طبيعة راديكالية، تحمل فكرةَ المعارضة بأسماء مختلفة، كالمطالبة بالديمقراطية، أو بالشرعية، أو بالإصلاح والتغيير والثورة... إلخ، مع ما تفرّع عن ذلك من مفاهيم ذات طابع اقتصادي أو أيديولوجي، صيغت في الممارسة السياسية والاجتماعية من خلال شعارات تعبوية، كان بعضها محرّكاً لانقلابات شتى على صعيد المجتمع (ثورات)، وكذا على صعيد الدولة (انقلابات).
يمكن أن أستنتج، من هذا، أن ملامح العهود الجديدة ومقوماتها، في البلدان المغاربية جميعها، أصبحت محكومةً باستقرار نظام أصبح وجوده الفعلي مؤسّساً وثابتاً (إلى حدّ ما) في ضوء الاختيارات التي تقرّرت بشكل منفرد في بعض التجارب، وبالمشاركة مع الحلفاء الذين يتوافقون مع الاختيارات المسنونة في تجارب أخرى. فكان النظام الجمهوري الرئاسي هو الصيغة الأنسب، لأنها صيغة موروثة عن الأشكال ما قبل رأسمالية (الدستورية) لنظام الحكم (قبلية وعشائرية أو سلالية تقليدية)، أو تكوّنت في فترة الحماية الاستعمارية ضمن بناء مفهوم الدولة الحديثة (السلطة)، التي احتاجت إليها الحماية الاستعمارية لإدارة شؤونها العامّة، ولأنها أيضاً كانت على شيء من الاستجابة لفترة النهوض القومي التي عرفها المشرق العربي بعد إسقاط الملكيتين في مصر والعراق. ولم تصمد إلّا المؤسّسة الملكية المغربية، التي أرى في أساس صمودها عاملَين مهمَّين، أنَّ الحماية رسّخت قواعدها المبنية على التصور الديني (البيعة والولاء)، فضخّت فيها عوامل الاستمرار والبقاء، مع قليل من مظاهر التجدّد التي صاحبت التطوّر الاقتصادي الرأسمالي التبعي المُستنبَت في البلاد. والعامل الثاني صيغ في ضوء الحاجة التي اهتدت إليها الحركة الوطنية لبعث نظام سياسي يتوافق مع التاريخ (منذ أواخر القرن السادس عشر)، ومع الحاجة إلى اكتساب الشرعية النضالية والدينية الضامنة للحكم، ولم تكن تلك الشرعية مضمونةً، مع ما خالطها من توتّرات ومؤامرات... إلخ، إلّا للسلالة العلوية.
العامل المهم الذي يجب الإقرار بفعاليته في إطار الصراعات التي تولّدت من المرحلة الاستقلالية الجديدة أن النظامَين معاً تعرّضا لهزّات عميقة لم تقوّض وجودهما، ولكنّها أوجبت عليهما إحداث تغييرات جذرية في التدبير السياسي للسلطة لضمان الاستقرار والاستمرار. وهذا هو الذي يفهمنا كيف كان الاستبداد السياسي بديلاً غير موضوعي لقيام الحياة الديمقراطية، لأن الأمر كان على علاقة، ذاتية وموضوعية بطبيعة السلطة التي تكوّنت في ركاب الاستقلال، وكذا بطبيعة الصراعات التي انفجرت ودارت بين الأطراف المتصارعة على مغانم العهد الجديد، أي إن طبيعة السلطة كانت حصريةً ومطلقةً فتحكّمت في كلّ شيء، من الوظائف إلى الخيرات المادية، مروراً بتصرّفات الأجهزة الإدارية والمخابراتية، وغيرها. ثمّ إن بناء الاستبداد لم يكن على علاقة مباشرة بطبيعة النظام السياسي، أو انعكاساً لمحتواه واختياراته فقط، بل أيضاً بطبيعة الصراعات التي قادتها القوى التي أصبحت في تعارض تامّ (أو جزئي) مع السلطة المطلقة.
أصبح النظام السياسي للدولة في البلدان المغاربية ضدّ تطوّر المجتمع، لأنه أعاق مختلف مظاهر النمو والتحوّل، بعنف الاستبداد
ترسّخ تاريخ الاستبداد السياسي، وهو في المقابل تاريخ المطالبة بالديمقراطية أيضاً، في مواقع السلطة وفي بنيان المجتمع، فأصبحت له أيديولوجيته ومواقفه التبريرية، مع الوجود الفعلي الذي له في التحكّم والسيطرة والإقصاء وقمع المعارضين قمعاً مادّياً ومعنوياً، وحبك المؤامرات لإفشالهم وشق صفوفهم وتلفيق الاتهامات ضدهم، وسواها. مع الإشارة إلى أن الأساس العام الذي قام عليه الاستبداد موجود في البنية الاقتصادية (السوق) من خلال التحكّم الدولتي في مصادر الثروة، وفي إرساء التوجّهات الاقتصادية في إطار الاختيار الرأسمالي التبعي المرتبط بمراكزه الأساسية (فرنسا وأميركا). مع القول، في هذا المجال، إن التجارب الاشتراكية المحدودة، التي برمجتها بعض أنظمة الحكم في بعض الدول المغاربية، لم توفّق مطلقاً في "استنبات" أسلوب مختلف يغيّر طبيعة قوى الإنتاج وعلاقاته على أيّ مستوىً من مستويات الحياة العامّة. فالقاعدة الاقتصادية التي قام عليها نظام الحكم وبناء الاستبداد كانت موروثةً عن البنية التي أوجدتها الحماية الاستعمارية، ونتيجةً أيضاً لمصادرة جميع الخيرات والثروات والأجهزة، والتحكّم فيها بحسب الاختيارات التي أقرتها الطبقات الحاكمة في بلدانها، وأيضاً من خلال توجيه دفّة الحكم لما قد يخدم الاستقرار من خلال التحكّم، والمصالح الدولتية والفئوية، من خلال الاستثمار والتحالفات المالية المختلفة في الداخل والخارج. فلم تكن الرأسمالية التبعية اختياراً وإنما بنية اقتصادية مرتبطة بالمصالح الأجنبية بعد أن كانت خاضعةً لها، وهي التي وَلَّدَت وكوَّنت طبقةً من المنتفعين والمفسدين شكّلوا ما يمكن اعتباره (من حيث التوجّه) رأسمالية الدولة التحكّمية الشرهة، التي جعلت من نظام السوق مجالاً ومرتعاً لاقتصادها القائم على الاستغلال وتحقيق الربح، من دون الحديث عن ارتباطاتها الخارجية بمراكز السوق العالمية، أو بالمؤسّسات المالية المانِحة والمُقرِضة، لتمويل الاستثمارات التي أقدمت عليها.
النتيجة أن النظام السياسي للدولة أصبح ضدّ تطوّر المجتمع نفسه، لأنه أعاق مختلف مظاهر النمو والتحوّل، بعنف الاستبداد، وأبطل شروط وجودهما، التي كانت تحتاج إلى فلسفة سياسية منفتحة، وإلى مجال ديمقراطي شرعي، وإلى اختيارات عامّة تراعي التنوّع والاختلاف، وتصون الحقوق والحرّيات.