فلسطين في المغرب: منظورات وتصوّرات
لا يمكن لمن لم يَطّلع، ولو يسيراً، على مواقف الفكر السياسي المغربي الحديث، أن يُقَدِّر، ولو أراد، طبيعة الآراء التي عبّر عنها قادة الفكر والعمل السياسي حيال القضية الفلسطينية في مختلف مراحل تطوّر هذه القضية وتطوّر التصوّرات المتعلقة بها في المغرب. ويعود ذلك، في جانبٍ كبيرٍ منه، إلى أن تلك الأفكار قيلت ونشرت في دوائر ضيقة، فلم يكتب لها أن تنتشر، رغم أنها على ارتباط بقضية سياسية كبرى، لكثير من المغاربة عنها وعي متقد، وخاضوا من أجلها نضالات مشهودة، كما كانت لعدد كبير نسبياً من المثقفين من عناصر التأثير الأساسية التي أثرت في فكرهم، وطوّرت وعيهم بقضاياهم وقضايا الشعوب المكافحة ضد الاحتلال والتهجير. أضيف إلى هذا أن تلك المواقف والأفكار ظلت حبيسة المجال المغربي لم تتجاوز الحدود (الوطنية) إلا نادراً، ولذلك، فيما يبدو، علاقة بالموقع الجغرافي لما كان يعتبر في القديم (غرباً إسلامياً) أقرب ما يكون إلى شبه الجزيرة الإيبيرية (أوروبا أيضاً) منه إلى المشرق العربي، فضلاً عن أن هذا المشرق كان يعيش على "نهضته التحرّرية" المتمركزة على الذات العروبية والقومية منذ أوائل الخمسينيات، فلم يكن من المتيسّر، ولا في حكم الوارد كذلك، أن يصل الصدى الخارجي أو أن يفلح التأثير الوارد.
ومهما يكن من أمر، فإن من الممكن، في علاقة بالموضوع، أن أتكلّم عن الأفكار والمواقف، المشار إليها في البداية، على أنها أفكار واضحة، بعضها مبتدع ونيّر، جاءت في تعبيرها عن الموقف، كما في خلاصاتها النابعة من تحليل خاص لقضية من القضايا، بصرف النظر عن صحتها أو خطلها، قوتها أو ضعفها، على النقيض، في بعض الأحيان، من تلك التي تبلورت وجرى التعبير عنها، رسمياً بالمناسبة، أو كاجتهادات فكرية، في سياقات ثقافية وفكرية أخرى صلاتها العامة قوية، بسبب معتقدات أيديولوجية قومية واشتراكية كبرى، أو لارتباطها بحركات سياسية واجتماعية ذات أهمية مؤثرة في العمل والنضال داخل الأحزاب والمنظمات الفاعلة في ساحة الفكر والممارسة.
وعندما يتعلق الأمر بالقضية الفلسطينية تحديداً، فإن من المؤكد أن المواقف والتصوّرات التي عبر عنها بعض قادة الفكر السياسي في المغرب تبدو مختلفة من زاويتين على الأقل: أجد في الزاوية الأولى ارتكازها، في التفكير، على تصورات دينية مُؤولة تمجد (السالف الصالح) وترمي إلى البعث الديني والتربوي والتعليمي وغيره بوصفه قاعدة لنشر الفكر الوطني وتجنيد المواطنين للإسهام في النضال وتأليبهم ضد الحماية إلخ. ولم تتشبّه هذه التصورات بالمنظورات "الإخوانية)"كما ظهرت وتطورت في التجربة المصرية مع حركة الإخوان المسلمين، وفي تفكير الشيخ حسن البنا، بل كانت على شبه معين بـ"العقيدة" الأيديولوجية المبنية على "المنزع الوهابي" في إحالتها على أسس مستخلصة من الأوضاع التي سادت في مغرب البدايات الأولى للقرن العشرين، قبل توقيع معاهدة الحماية (مع فرنسا)، أبرزها ثلاثة: الجمود الديني، والانحطاط التربوي، والمنافسة التجارية التي أوجبها الاتصال بأوروبا، فتولدت بسبب ذلك كله، وغيرِه، كثيرٌ من المظاهر الاجتماعية والشعورية السلبية التي أصبحت اعتقادات "باطلة" قوامها الخرافة والشعوذة والجهل... ثم إنها أمست راسخة في الأفهام المتخلفة، متحكّمة في السلوك الاجتماعي بفضل ظروف الفقر والجهل والأوبئة الفتاكة. وربما كانت خلفية ذلك كله على علاقة بالاضطرابات السياسية، فضلاً عن مظاهر "السيبة"، والتمرّدات القبلية، التي عمّرت في البلاد أزماناً لم يكن الاستقرار فيها مضموناً ولا سلطة "المخزن" الحاكم في أثنائها شاملة أو مؤكّدة.
كانت القضية الفلسطينية من عناصر التأثير الأساسية لعدد كبير نسبياً من المثقفين، أثرت في فكرهم، وطوّرت وعيهم بقضاياهم وقضايا الشعوب المكافحة ضد الاحتلال والتهجير
هنا تكمن البواعث العامّة التي انطلقت منها "السلفية الجديدة" التي أمست، منذ البداية على نحو ما، أيديولوجية الحركة الوطنية الوليدة، وهي التي تبلورت فيها جميع التصورات والمواقف ذات الطبيعة الإصلاحية التي جرى التعبير عنها، بدافع السياق وفيه عنصر الحماية، أو بدافع الإيمان (الإسلام) وفيه عنصر الخلافة. ومع هذه وتلك مختلف القضايا التي كانت تبدو في حاجة ماسّة إلى المناصرة والتضامن، ومنها قضية فلسطين منذ وعد بلفور المشؤوم. وعموماً، تطوّرت تلك البواعث في ظلّ الحماية إلى أن برزت بالتدريج في الأشكال التنظيمية الأولى التي احتضنت العمل السياسي المباشر، وحثت على النضال على ضوء دفتر "المطالب الوطنية الأولى" (1934). وقد لعب المثقفون المدينيون في ذلك كله، خريجو "القرويين" وبعض المعاهد الغربية على السواء، من أبناء البورجوازية التجارية في غالبيتهم، الدور البارز، ثم أصبحوا قادتها في الدعوة إلى النهوض والإصلاح والتضامن العربي الإسلامي لمناوأة الحمايتيْن، الفرنسية والإسبانية، والعمل في سبيل الاستقلال.
أما الزاوية الثانية فهي المتمثلة، على صعيد التصوّرات والمواقف، في مزيج من الأفكار (التقدمية) المسكوبة حيناً في قوالب نظرية اشتراكية وماركسية، أو في صيغ التفكير الليبرالي الغربي المكيّف بالشعور الديني في التقدير، مع ميلٍ إلى الفهم البراغماتي المُوحِي بالواقعية أو المهادنة. ومما يلاحظ على هذا المنحى أن روّاده، والذين أنتجوا فيه مواقف وعبّروا عن تصوّرات متبلورة بحسب المناسبات والسياقات، هم في الغالب من مناضلي الحركة التقدّمية التي ائتلفت، منذ الاستقلال، في حزبين كبيرين، الاتحاد الوطني للقوات الشعبية (بعد خروجه عن حزب الاستقلال - الأصل)، والتحرر والاشتراكية (الحزب الشيوعي الممنوع عام 1960)، وربما كان أكثرهم وضوحا وانحيازا عمر بنجلون الذي أنشأ بُعَيْد هزيمة 1967 صحيفة بعنوان "فلسطين"، مديرها محمد الوديع الأسفي، بالإضافة إلى الشاعر عبد اللطيف اللعبي الذي خصّص في تلك الفترة المبكرة من أواخر الستينيات عدداً خاصاً من مجلته الأدبية (أنفاس، 1969) للثورة الفلسطينية الوليدة في ذلك الإبّان.
ومن الواضح أن الباعث على عرض تلك المواقف والتصوّرات كان على ارتباطٍ، من ناحية، بظهور الثورة الفلسطينية بعداً أساسياً وجوهرياً من أبعاد التحرّر العربي المطلوب من جميع أشكال الهيمنة الأجنبية صهيونية واستعمارية إمبريالية، وغالبية من شاركوا، بأقلامهم أو بنظرهم في ذلك، كانوا أيضاً على صلة بأطر العمل الحزبي، أو منظّمات العمل الثقافي التقدمي، ويعبّرون عن "النظريات العامة" التي تحكّمت في بروز تلك الأطر ونضالها في مناخ مناوئ تمخض عن الاستقلال، الذي سَمّوه بالشكلي، واعتُبِر، في تطوّره العام، متعارضاً مع الأشواق والأماني الوطنية (التحرّرية). أما من الناحية الثانية ففي علاقة بالتطوّرات السياسية الداخلية، وفيها خصوصاً، إبطال المطلب الديموقراطي والتضييق الممارس، في إثر هذا، على الحرّيات العامة، وعلى أساليب النضال الوطني العامل في سبيل الإصلاح وطرقه، وهو ما خَتَمَت عليه "حالة الاستثناء" المعلنة في صيف 1965، بناء على تأويلٍ خاص، بالطابع القانوني الذي كان في معناه تعطيل العمل بالدستور وإلغاء المشروعية. وسيكون من المفهوم، في هذا الإطار، أن القضية الفلسطينية أصبحت، عند سياسيين كثيرين وفئة من المثقفين، (قضية وطنية) في مستوى القضايا التي كانوا يناضلون من أجلها (الديمقراطية، رفض التبعية، عودة المشروعية ... إلخ) ويسعون إلى تحقيق أهدافها، رغم ظروف الإكراه، في إطار المعارضة السياسية المحتدمة والعمل من أجل التغيير أو الإصلاح.
القضية الفلسطينية أصبحت، عند سياسيين كثيرين وفئة من المثقفين، "قضية وطنية"، في مستوى القضايا التي كانوا يناضلون من أجلها
والمستفاد من هذا إجمالاً أن مواقف الفكر السياسي المغربي الحديث، المتعلقة بالقضية الفلسطينية في فترة النهوض والتطوّر، أوْجَدَت من حولها، قصد التعبير المختلف عن قضاياها من منظور وحدوي، مع انحياز ظاهر إلى القوة الفعلية المؤثرة في الثورة (حركة فتح)، أشكالاً تنظيمية روعي في مبناها أن تكون، بحكم الطابع التحرري للقضية، عمومية وواسعة لا تنحصر في فئة من الفئات السياسية أو المجتمعية، كما لا تتقيّد حرفياً بالتصوّرات السياسية الخاصة بالأحزاب التي ساهمت فيها ودعمت عملها العام، وإن كانت، على هذا المستوى وذاك، متضامنة معها وَتُعَوّل أيضاً على مناصرتها. وبمجرد ما أن ظهرت إلى الوجود (الجمعية المغربية لمساندة الكفاح الفلسطيني) في 1968 حتى تقرّرت المساهمة الفعلية في دعم الثورة إعلامياً (صحيفة "فلسطين" وصفحات أسبوعية مختلفة في جرائد الأحزاب السياسية الداعمة، وصدور أول كتاب عن الثورة لأحد أعلام الصحافة المغربية محمد العربي المساري: "مع فتح في الأغوار"..). وفعلياً من خلال جمع التبرّعات السخية، والدعاية المكثفة لقضايا الثورة بين الشباب، وفتح فروع للجمعية في مدنٍ كثيرة وهكذا.
ومع أن الاهتمام بالقضية الفلسطينية التَبس، في مراحل كثيرة، بالشعور الإسلامي الذي يخاطب المؤمن في عقيدته حاثّاً إياه على البذل والفداء والتضحية، إلا أنَّ البروز العام للقضية الفلسطينية، بعد هزيمة 1967 بالخصوص، استقام، بصورة مختلفة، على ضوء التصوّر القومي الوحدوي (الناصري والبعثي) الذي تبلور في دائرة النضال العربي التحرّري في جانب، وكذا على الاختيار اليساري، المبني على النظرية الماركسية ومنطلقات الأممية الثالثة في الثورة الوطنية الديمقراطية، وأساساً منذ بروز الأطروحات اليسارية في ظل حركة القوميين العرب والجبهات اليسارية الفلسطينية بوصفها امتداداً لها.