فشل اليسار في الانتخابات الأردنية... هل من جديد؟

02 أكتوبر 2024
+ الخط -

رحم الله رئيس وزراء الأردن الأسبق، سليمان النابلسي، كان يعيب على أحزاب الحركة الوطنية إخفاقها في توحيد قواها خلال الانتخابات النيابية في خمسينيّات القرن الماضي، وخاصّةً انتخابات 16 أكتوبر/ تشرين الأول 1954 التي زُوِّرت، وانتخابات أكتوبر 1956 التي اتّسمت بالنزاهة النسبية، ربّما باستثناء دائرة عمّان، التي اتهم النابلسيُّ السلطاتَ بتعمّد إسقاطه فيها. ففي مُذكّراته المنشورة أخيراً، يلوم النابلسيُّ حزب البعث الذي أصرّ على أن يتقدّم وحده بـ18 مُرشَّحاً إلى انتخابات المجلس النيابي الخامس، وكانت مقاعد ذلك المجلس لا تزيد عن 40، تتقاسمها ضفّتا الأردن بالتساوي. حينها أخذ مُرشّح البعث، المحامي الناشئ سليمان الحديدي، من حصّة النابلسي من الأصوات "السلطية"، كما أخذ مُرشّح حركة القوميين العرب، نزار جردانة، من أصواته في عمّان أيضاً. وكانت النتيجة أن سقط الثلاثة، وحدث الأمر نفسه في الكرك، وفي بعض دوائر الضفّة الغربية. أيّ أنّ أحزاب الحركة الوطنية (الوطني الاشتراكي، والبعث، والشيوعيون، والقوميون العرب) تزاحمت على المقاعد ذاتها، بدلاً من تشكيل قائمة موحّدة لها، الأمر الذي حال دون فوز عديدين من مُرشَّحيها، بمن فيهم نجوم سياسة، كما هو حال سليمان النابلسي نفسه.
منذ تلك الانتخابات ومشهد التزاحم والتنافس في الأردن بين أحزاب المُعارَضة، وتحديداً اليسارية منها، هو نفسه، ولم تتعلّم تلك الأحزاب من الأثمان الباهظة التي ظلّت تدفعها مراراً، خاصّةً في العقود الثلاثة الماضية. ومن هنا، فإنّ إخفاق اليسار في انتخابات المجلس النيابي العشرين (10 سبتمبر/ أيلول 2024)، وعجزه عن إيصال أيٍّ من مُرشَّحيه إلى مقاعد المجلس ليس جديداً في المشهد السياسي الأردني، رغم وقعه الصادم، إذ كان اليسار الأردني يحظى في بعض المجالس النيابية السابقة بتمثيل رمزي، يُضفي على تلك المجالس شيئاً من التلوين السياسي. لكنّ الفجيعة في اليسار الأردني تجاوزت الحدود والتوقّعات كلّها في الانتخابات النيابية أخيراً. إذ بينما يُفترَض أن تكون هذه الانتخابات فرصةً ذهبيةً لهذا التيّار للاستفادة من عملية التحديث السياسي الذي أقدم عليها النظامُ السياسي الأردني، من خلال الإصلاحات في قانون الأحزاب والانتخابات النيابية، وفتحت البابَ لإجراء انتخابات المجلس النيابي العشرين على قاعدة التنافس بين القوائم الحزبية، على صعيد ما سُمّيتا "الدائرة العامة" و"الدوائر المحلّية" على حدّ سواء، فضلاً عن توفّر "لحظة ليبرالية" استثنائية، شبيهة بتلك المحطة الانتخابية الفاصلة في نوفمبر/ تشرين الثاني 1989، ووفّرت لمختلف الاتجاهات السياسية المناخ السياسي الملائم لخوض الانتخابات بقدر عالٍ من الحيادية والنزاهة.

كشفت نتائج الانتخابات غربة تنظيمات اليسار عن حاملها الاجتماعي المُفترض وفقدانها مبرّر وجودها قوىً سياسية

لم تفلح قوى اليسار وتنظيماته في اغتنام هذه الفرصة الذهبية، أوّلاً بتوحيد صفوفها لخوض المعركة الانتخابية معاً، بما يُمكّنها من حشد أصوات الناخبين اللازمة لتجاوز "العتبة الانتخابية"، أو نسبة الحسم التي تعتبر الحدَّ الأدنى من الأصوات التي يُفترَض أن يحصل عليها الحزب ليحقّ له الحصول على أحد المقاعد النيابية، وهي ما نسبته 2.5%. كما أنّها (ثانياً) أخفقت في اختيار المُرشَّحين الملائمين، القادرين على مخاطبة (واستقطاب) القواعد الانتخابية ذات الجذور الاجتماعية الشعبية، وهي التي تخوض هذه الانتخابات بقوائم مُتفرِّقة.
تمكّنت القوى السياسية الأخرى، وفي مُقدِّمتها جبهة العمل الإسلامي، بل وغيرها من الأحزاب "الناشئة"، من اغتنام المرحلة الأولى من عملية التحديث السياسي، وما انطوت عليه من مناخ انفراجي واسع، تراجعت فيه مظاهر التوتّر والتشنّج السياسي، كي تحصد ما حصدته من مكاسبَ انتخابيةٍ وسياسيةٍ غير مسبوقةٍ، تجسّدت في وصول 104 مُرشَّحين حزبيّين إلى مقاعد البرلمان، منهم 31 يمثّلون جبهة العمل الإسلامي، و73 مُرشَّحاً من مختلف التشكيلات الحزبية والسياسية. في مقابل ذلك، عجزت قوائم الأحزاب اليسارية عن بلوغ العتبة أو نسبة الحسم اللازمة للوصول إلى المجلس النيابي العشرين. ومن حسبة الأصوات التي حصلت عليها القوائم اليسارية، وهي قائمة "طريقنا"، المدعومة من الحزب الشيوعي الأردني، البالغة 38633 صوتاً (أو 2.36%) وقائمة تحالف التيّار الديمقراطي التي حصلت على 23551 صوتاً (أو 1.44%)، وقائمة "نهوض" التي ضمّت حزب الشعب الديمقراطي الأردني (حشد) وحزب البعث الاشتراكي و"حصاد"، التي حصلت على 12354 صوتاً، وقائمة حزب الوحدة الشعبية (وحدة)، التي فضّلت خوض الانتخابات في دائرة عمّان الثانية، وهي دائرة محلّية، وحصلت على نحو 2500 صوتٍ لمُرشَّحيها السبعة... من حسبة تلك الأصوات، فإنّ الأصوات التي حققتها هذه القوائم الأربع (نحو 77500 صوتٍ) كانت تؤهّلها لتكون القائمة الرابعة بعد القوائم الثلاث الفائزة، أي "العمل الإسلامي" و"الميثاق" و"إرادة"، فيما لو وحَّدت قواها ودخلت الانتخابات بقائمة واحدة.
أمّا وقد حصل ما حصل، ما الذي يمكن استخلاصه من فشل اليسار، أو خسارته الفاقعة في الانتخابات النيابية الأخيرة؟
الاستخلاص الأول من هذا الفشل هو تكشّف انحسار القاعدة الاجتماعية الفعلية لليسار، أو غربة تنظيمات اليسار عن الحامل الاجتماعي المُفترض لليسار ومبرّر وجودها قوى سياسية، ونقصد هنا غربة هذا اليسار عن الطبقة العاملة والفئات الدنيا والمتوسّطة من الطبقة الوسطى. ولعلّ أبرز مظاهر هذا الانحسار افتقار مختلف تشكيلات اليسار لأيّ تمثيل يُعتدّ به في النقابات العمالية، أو في النقابات المهنية، وغيرها من التشكيلات الاجتماعية. إذ في أحسن الأحوال تتمتّع بعض قوى اليسار بتمثيل رمزي هنا أو هناك من النقابات والحركات الاجتماعية الأخرى.
وفضلاً عن ذلك، لا يبدو أنّ لقوى اليسار تمثيلاً وازناً في منظّمات الشباب أو النساء، كاتّحادات الطلبة في الجامعات، أو في المنظّمات الاجتماعية القائمة على العضوية المفتوحة. هذا رغم أنّ لمعظم أحزاب اليسار أطراً صديقةً أو مناصِرةً، خاصّة من الشباب والنساء.
والغريب في الأمر أنّ هاتَين الكتلتَين (الشباب والنساء) تعانيان منذ سنوات أصعب المعاناة من جرّاء البطالة التي تصيبهما أكثر من غيرهما من الفئات العمرية أو الجندرية. فإذا كانت نسبة البطالة في الأردن تصل 21.4% من القوى العاملة (15 سنة فأكثر) يمكنك أن تضرب الرقم باثنَين لتتعرّف إلى نسبة البطالة بين فئة الشباب خاصّة، كما يُمكنك أن تضرب مُعدَّل البطالة الوطني برقم ثلاثة لتصل نسبةُ البطالة بين النساء في سنّ العمل (15 سنة فأكثر). لكن لو وضعنا جانباً ضعف تمثيل اليسار في المنظّمات والحركات الاجتماعية، وسلّمنا بواقع ضعف وهشاشة هذا التمثيل، فماذا عن الدور الفكري والثقافي، وأين هي رياديّته المفترضة في قراءة الواقع المعاش، أردنياً وعربياً ودولياً؟ وما رؤيته أو خطابه في اللحظة التاريخية الراهنة؟ وما الحلول أو البدائل المُقترَحة، التي يُفترَض أن تُؤشَّر إلى خيارات تتحدّى السياسات والاستراتيجيات القائمة.
أين هو اليسار الذي يُفترَض أن يكون حاملاً مشروع النهضة والتحديث والتقدّم؟ وأين دوره في التنوير والوصول إلى دولة عصرية ديمقراطية ذات سيادة، وإلى مجتمع مدني تعدّدي؟ كيف لنا أن نصل إلى تنمية مستدامة، صديقة للبيئة وللأجيال المقبلة، وما هو السبيل إلى الوصول إلى عدالة اجتماعية، وإلى فرص متساوية، وإلى قوانين تضمن المواطنة المتكافئة، تُنصف الفئات الضعيفة وتُحقّق العدالة الجندرية؟ وكيف يقطع الطريقَ على الفساد إرساءُ قواعد الحوكمة الرشيدة والشفافية والمساءلة في مختلف الإدارات الحكومية، المركزية والمحلّية، وفي القطاعين العامّ والخاصّ؟ وكيف نُعيد إلى الممارسة السياسية بُعدها الأخلاقي، ونعيد للعمل العامّ أهمّيته؟

على اليسار الأردني الاعتراف بأزمته البنيوية، فهي ليست عارضةً أو مُؤقَّتةً، وإنّما ممتدّة ومتجذرة لم تُجابَه بالشجاعة الكافية

على اليسار الأردني اليوم الاعتراف بأزمته البنيوية، فهي ليست أزمةً عارضةً أو مُؤقَّتةً، وإنّما هي أزمة ممتدّة ومتجذرة لم تُجابَه بالشجاعة الكافية، رغم حوارات عديدةٍ خيضت بهدف توحيد قواه واستنهاضها. لقد أسقطت الانتخابات البرلمانية أخيراً "المظلومية" اليسارية، التي تتذّرع بعداء النُخَب البيروقراطية الحكومية التاريخي لليسار، وبمحاولاتها المُستمرّة لردعه وقمعه. لكنّ تكرار هذه المظلومية لم يعد يُفسِّر أو يُبرِّر آخر فشل لليسار الأردني. وإذ لا ننكر صحّةَ استباق هذه الانتخابات بنوع من "الهندسة الحزبية"، إلّا أنّ هذا لا يمثّل سوى نصف الحقيقة، أمّا النصف الآخر فهو أنّ القوى اليسارية القائمة قد شاخت، وشاخت معها أساليب عملها ومرجعياتها الفكرية، ولم تعد تُخاطِب أحداً سوى نفسها.
كانت أمام أحزاب اليسار الأردني فرصة واقعية وراهنة للتعلّم من تجربة اليسار الفرنسي أخيراً في انتخابات الجمعية الوطنية (البرلمان)، التي أُجريت قبل أسابيع قليلة من الانتخابات النيابية الأردنية، وكيف أنّ مختلف فصائل اليسار الفرنسي سارعت إلى لملمة صفوفها في إطار "الجبهة الشعبية"، التي حصدت 188 مقعداً من مجموع 577 مقعداً من مقاعد البرلمان الفرنسي، ما يجعله في الكتلة الأولى، ليليه تيّار الوسط برئاسة الرئيس إيمانويل ماكرون، ثمّ حزب التجمّع الوطني اليميني، وذلك عندما استشعرت خطر صعود اليمين الشعبوي والفاشي في الحياة السياسية الفرنسية، وإمكانية حصوله على أغلبية كافية لتهديد النظام الديمقراطي في ذلك البلد. فلماذا نجح اليسار الفرنسي في توحيد صفوفه وعجز اليسار الأردني عن تحقيق ذلك؟
أخيراً، كما يُقال عادةً، "ربّ ضارَّة نافعة"، فأمام قوى اليسار فرصةٌ كافيةٌ لإجراء المرجعات النقدية اللازمة، وللتعلّم من دروس الفشل المُتكرّرة. ولعلّ الانتخابات البلدية واللامركزية المقبلة (بعد نحو ثمانية عشر شهراً) تُشكّل فرصةً جديدةً لاستعادة دور اليسار في الحياة الأردنية، وللمساهمة في ترجمة مشاريع التحديث والإصلاح السياسي واقعاً، جنباً إلى جنب مع القوى والتيّارات السياسية الأخرى.

63574C85-2EAC-4D3E-BA5E-B0892FA44AC0
63574C85-2EAC-4D3E-BA5E-B0892FA44AC0
هاني حوراني

باحث وناشط سياسي أردني باحث، مؤسس مركز الأردن الجديد للدراسات منذ 1990. له مؤلفات في الأحزاب السياسية والحركات الاجتماعية والتنمية الديمقراطية. يجمع، أخيراً، بين النشاط السياسي والممارسة الثقافية والفنية.

هاني حوراني