"فاغنر" ثمرة روسية والبذرة إيرانية

04 يوليو 2023
+ الخط -

سوف يمرّ وقت طويل، قبل أن يجد المحللون والدبلوماسيون والفضوليون الإجابات الشافية لذاك السيل المتدفّق من الأسئلة، التي أطلقها تحرّك قائد مجموعة فاغنر، يفغيني بريغوجين، من عقالها، عندما توجّه في رتل عسكري لجب إلى موسكو، ثم توقف فجأة، بذريعة مرتجلة، عند أبواب عاصمة الإمبراطوريات الروسية المتعاقبة، في مشهد يشي بالتمرّد العسكري، أو ربما بانقلاب على سيّد الكرملين، الأمر الذي أوجد وضعاً فوضوياً لم يدُر في خلد القيصر من قبل، ولم يراود أذهان أعدى أعدائه، ممن راحوا يتمنون النجاح لكل من فلاديمير بوتين وطبّاخه العتيد، وأخذوا، في الوقت نفسه، يعيدون قراءة الفسيفساء الداخلية المعقدة للبلد المتورّط في حرب بالوكالة مع حلف الناتو.
سوف نضع كل تلك الأسئلة والتساؤلات والتكهنات جانباً، وندع للأيام المقبلة مهمة فضّ التباسات هذه اللحظة الروسية الحرجة، سيما وأن الفصل الأخير من هذه الدراما المثيرة لشتّى التوقعات لم يُكتب بعد، وأن الكلمة النهائية لكل الأطراف المعنية بالتسوية الغامضة لم تُقل بعد، وذلك بهدف تركيز الضوء ما أمكن على أحد أهم الدروس الثمينة، المستخلصة من تحدّي قائد مليشيا فاغنر سلطة ربّ البيت قبل أن تشيب منه الذوائب، ودسّ إصبع طويلة في عين مروّض الدببة، وذلك بدلاً من الركض وراء التسريبات المضلّلة، والانشغال بأمر ما إذا كانت الواقعة عملاً مسرحياً مدبّراً، حسب نظرية المؤامرة، أو كانت تمرّداً أو انقلاباً، ولا فرق بينهما في المحصلة.
ما نحن بصدده في هذه المقاربة التأمّلية هو تبيان مدى جسامة الخطيئة المؤسِسِة لكل الخطايا اللاحقة، الباعثة لكل هذه الفوضى الضاربة تحت أعمدة هيكل حكم الأوليغرشيا، ونعني تلك الغلطة الكبرى التي ارتكبها القيصر بحقّ نفسه، بل وبحقّ العسكرية الروسية، ربما لتعظيم رصيده الشخصي أو لإيجاد توازن بين كبار جنرالاته البدينين المتجهمين دائماً، المتنافسين على كل شيءٍ حوله، بما في ذلك الثروة والسلطة، وذلك حين حاول اللاعب الممسك بخيوط السلطة الكلية إعادة هندسة مركّبات الآلة الحربية الثقيلة وتجديد قدراتها التكتيكية، ومواءمة ما يمكن تسميتها "جينات الدولة العميقة"، مع متغيرات المسرح الدولي ومراوغاته الكثيرة، فخالف، بهذه الفعلة غير المهنية، قواعد منظومة السلطة وأحكامها، أي سلطة، وسار عكس ما انفطرت عليه طبيعة الدولة القُطرية، محتكرة العنف وحدها من غير منازع، ومستخدمة السلاح حقّا مطلقا لها من دون شريك، فكان بوتين بذلك كمن ربّى أفعى في غرفة نومه.
وهكذا، وعلى غرار ما صنعه آيات الله لدرء خطر انقلاب جيش الشاه عليهم ذات ليلة ليلاء، بإنشاء الحرس الثوري كبندقية موازية وقلعة حامية، زرع بوتين بيده، لا بيد جنرال أدارت الفودكا رأسه، بذرة سامّة مماثلة في أحشاء روسيا المتعافية حديثاً من حالة تسمّم مديدة، وهي هنا "فاغنر"، أو قل هذا المخلوق صاحب الأذرع الطويلة، الذي أخذ يكبر تحت بصر وسمع المفتون بفن المناورة وتوزيع الأدوار واللعب على الحافّة النووية، إلى أن جاء اليوم الذي تمرّد فيه المخلوق على الخالق وعصى، أي يوم تحوّلت المليشيا المدجّجة من قوة ضاربة بيد السيد الأوحد، إلى منظمّة عسكرية داخلية مسيّسة، تزاحم أركان النظام على مغانم الحكم، وتهدّد بغزو العاصمة، لاقتطاع نصيبها العادل من كعكة السلطة.
تعيد هذه السابقة الروسية المخلّة بمبدأ "بندقية واحدة وآراء سياسية متعدّدة"، المعمول به لدى سائر الدول المعاصرة، إلى الذاكرة الغضّة سوابق عديدة منسوخة، عن تلك البدعة الإيرانية، التي تكرّرت غير مرة في العالم العربي، أي تخليق بندقية مكافئة لبندقية الدولة، تمهيداً لتصنيع سلطة بديلة، ستنمو تحت شعار المقاومة، وتمسّك فيما بعد بمفاصل الحكم، الذي سوف يتزعزع أكثر مع مرور الوقت، إلى أن تتمكّن الدويلة من ابتلاع الدولة، تماماً على نحو ما تنطق به تجربة حزب الله في لبنان، واليمن، وإلى حد ما في غزّة، وحدّث ولا حرج عما يدور في السودان هذه الآونة، ولا تتفاءل كثيراً بمآل الزواج بالإكراه بين البندقية والسلطة في الحالة العراقية، القائمة على تساكنٍ مشحونٍ بالتربّص بين مختلف المكوّنات المذهبية.
وإلى أن تنجلي واقعة تمرّد فاغنر عن سر أسرارها الدفينة داخل أسوار الكرملين السميكة، المتكتّم على الحقائق المريرة، فإن العبرة المستخلصة على الفور من دروس هذه السابقة اللعينة أن المليشيات هي الخطيئة الأولى، الخطأ التأسيسي والكارثة بعينها على السلم والاستقرار والنمو المستدام والديمقراطية.

45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
عيسى الشعيبي

كاتب وصحافي من الأردن

عيسى الشعيبي