غزّة وماسك و"عاصفة الكالسيوم"
أعلن مالك شركة تيسلا، الأميركية، إيلون ماسك، قبل أيام، أن أول مريض تلقّى غرسة دماغية من ابتكار "نيورالينك"، بات قادراً من خلال تفكيره على التحكم بفأرة كمبيوتر. وجاء الإعلان بعد فترة من تأكيد ماسك أن "الإنسان 2" سيُصبح أمراً واقعاً في السنوات المقبلة، مؤكّداً أن الشريحة المزروعة في الدماغ ستفيد البشرية، سواء في تحسين قوّة سمعهم أو تحريك ما لا يقدرون على تحريكه جسدياً، وصولاً إلى تنشيط الأطراف المشلولة في جسم الإنسان، أي أن تجدّد الخلايا العصبية سينقل المرء من وضعية جسدية ـ عقلية ـ نفسية محدّدة إلى وضع آخر. بالمطلق، تبدو الفكرة جميلة طالما أنها متّصلة بخير الإنسان، رغم أن للتاريخ أمثولاتٍ عن استغلال سيئ لصناعاتٍ وُجدت لصالح الخير العام.
في موضع آخر، ذكرت تقارير صحافية أن باحثين من كوريا الجنوبية تمكّنوا من الوصول إلى تركيبة كيميائية قوية، سموها "عاصفة الكالسيوم"، ستُتيح فرصةً جدّية للقضاء على مرض السرطان، في خطوة عملاقة طبياً. وإذا صحّت التقارير، وتم تطوير هذا النوع من الاكتشاف، فإننا سندخُل مرحلة السيطرة على الأمراض السرطانية، ما كان حلماً لأطباء القرنين الـ20 و21.
اكتشافان واعدان، مرتبطان بالإنسان وخيْره، يقابلهما، في الوقت ذاته، مجاعة لم يشهد مثلها قطاع غزّة، في إعادة اكتشاف لطبيعة الاحتلال الإسرائيلي، المبنيّة على تحقير كل قيمة إنسانية، فلسطينية أو عربية أو غيرها. يظهر هنا خطّان متوازيان، يمثّل أحدهما أقصى التطرّف المؤيد لحياة البشر وتطويرها، وآخر يرسّخ أسوأ ما تعرّض له البشر في حياتهم. يستند الخط الأول إلى بحوث وتجارب لدراسة خلايا الإنسان، بينما الخط الثاني أسلوبٌ بدائيٌّ في ضرب غرائز الإنسان لقتل تفكيره وأي نيةٍ وإصرارٍ على المقاومة. يكرّس الخط الأول جوهر الأهداف البشرية منطقياً، أما الثاني فيثبّت حقيقة إسرائيل وحقيقة كل محتل عبر التاريخ.
ينقل هذا الانقسام العمودي بين الخطين تصنيف البشر إلى طبقات متفاوتة إلى مستوى أكثر انحطاطاً. بشر مستعدّون لمواصلة الرحلة في عالم الاختراعات والطب والتطوير، وبشر يعانون، كما عانى أسلافهم من الظلم والتدمير. لا تستقيم مساواة هنا، ولا يرتدع محتلّ، رغم كل الأدبيات المنمّقة التي سعى "المجتمع الدولي" إلى تسويقها بشكل خاص في مرحلة ما بعد الحرب الباردة (1947 ـ 1991).
يبقى أن كل هذه الاكتشافات قد لا تستمرّ في أي بيئةٍ مستقبلية، خصوصاً أن تعدّد النزاعات والحروب في أنحاء عدة من الكوكب، واستمرارها فترة طويلة، لا ينبئان بنهايةٍ ما، وبتطويق القتال. الحرب الروسية على أوكرانيا، التي تدخل عامها الثالث، اليوم السبت، لم تقارب الانتهاء، بل باتت مولدوفا على مشارف حربٍ مماثلة هي الأخرى. وبحسب مفاهيم عصر ما بعد الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945)، فإن الحركة التجارية حول العالم وأرباحها، هي المعيار الأساسي لمنع نشوب الحروب، وفي حال انعدام الأرباح، تصبح الحروب على عتبة أبوابنا. وفي حال تتالي فتح جبهات القتال في أنحاء من الكوكب، فإن تمويل أي اكتشافاتٍ واعدة لصالح البشرية سيضمحلّ تمهيداً لتخصيصه للموارد العسكرية. نخسر هنا الإنسان والفرصة.
في غزّة عالم آخر. حصار القطاع مستمرٌّ بوجه مختلف عن حصار ما بين عامي 2006 و2023. حصار اليوم أقرب إلى تطويق منطقة وإبادة كل من وما فيها. لا يكترث العالم فعلياً لوفاة أشخاصٍ من الجوع، فيما النقاش العقيم حول شاحنات المساعدات لا ينفع أي شخص في غزّة.
لم تكن البشرية عند هذا الحد من التفاوت منذ الثورة الصناعية، ما يزيل فكرة "التساوي بين البشر الأحرار"، ويسمح في فرض مجتمعٍ على غيره بقوة السلاح والدم والمجاعة. ربما بات بإمكان ماسك زرع شريحة في رؤوس الإسرائيليين، ريثما يخرجون من حقدهم، ويزرع أخرى في رؤوس من أشاح وجهه عن مجاعة غزّة، لعله يشعر بإنسانيّته.