سورية في بحر الزمن
شيء واحد لا يتوقف مهما فعلنا: الزمن. في الحالة السورية، انتقل الزمن في غضون أيام من إسقاط بشار الأسد ونظام العائلة وحزب البعث إلى أيّ نوعٍ من الحكم في سورية سيولد؟ عملياً، لا أحد يعلم ماهية النظام العتيد. ونظرياً لن يحمل أيَّ نوع من أنواع تقسيم سورية إلى دويلات عرقية أو طائفية. لا لشيء، سوى لأن طبيعة سورية لا تحتمل تقسيم الأراضي، عكس ما يظنّه أنصار نظريات المؤامرة، وهم كثر، خصوصاً حين يتداولون خرائط تقسيمية، لا لسورية فحسب، بل أيضاً للشرق الأوسط وشمال أفريقيا. فلو كانت مثل تلك الخرائط صحيحة، فلم يجري تداولها علناً؟ سيحمل المخاض السوري في مرحلة ما بعد الأسد نوعاً من الحكم الذي سيمنح صلاحيات أكثر مرونة للمحافظات، بصورة مماثلة بعض الشيء للعلاقة بين إقليم كردستان في العراق والحكومة الاتحادية في بغداد، لكن بصيغة أكثر قرباً من الطبيعة السورية.
لا يتعلق الأمر برفض الدول المجاورة لسورية تقسيمها أو قبوله، بل أن أي تقسيم للدولة السورية سيستولد كرة ثلج تطاول آثارها لبنان والعراق وتركيا والأردن وإيران. ليست سورية يوغوسلافيا السابقة على سبيل المثال، كي يمرّ تقسيمها من دون انعكاسه على الجوار الإقليمي. في يوغوسلافيا، وضمناً البلقان، تنوّع إثني وديني، لم يتجاوز الشمال اليوغوسلافي، ولا الجنوب، بل تمركز في الوسط وصولاً إلى مداخل ألبانيا الشرقية الشمالية لجهة كوسوفو. في المقابل، التنوّع الإثني والديني في سورية مترابط بين سواحل شرقي البحر المتوسط غرباً، وباتجاه إيران شرقاً، ومن تركيا شمالاً إلى شبه الجزيرة العربية جنوباً.
صحيحٌ أن المخاوف الناجمة عن وصول "هيئة تحرير الشام" (جبهة النصرة سابقاً) إلى السلطة في دمشق، ولو لثلاثة أشهر، محقّة، بفعل تاريخ "الهيئة" وزعيمها أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني)، لكن من جهة أخرى، سورية غير مؤهلة لتُصبح أفغانستان ثانية، بل مستحيل حصول ذلك. الأسباب كثيرة، فسورية بموقعها الجيوبوليتيكي في قلب الشرق الأوسط، وتالياً في لبّ الطريق الرابط بين الشرق والغرب، أكثر ميلاً إلى الانخراط في الحراك الاقتصادي والثقافي. حلب نموذجاً. مدينة مليئة بتراث اقتصادي واجتماعي وديني وثقافي لا ينضب. دمشق، أقدم عاصمة في التاريخ، لا قدر لها سوى التفاعل مع عالم يُشبهها باتساعها الجغرافي، كما أن قلعة بعلبك الرومانية لم تُبنَ إلا عبر تمرير أحجارها عبر طرق حمص السهلية، لا عبر الجبال اللبنانية الوعرة. الجغرافية في سورية متفاعلة ومتحرّكة أكثر بكثير مما هي في أفغانستان، سقف العالم، والمعزولة بفعل طبيعتها القاسية ومناخها القارس.
أكثر من ذلك، مع أن من المبكر توقع ما سيحصل، إلا أنه يُمكن الاتفاق على أن التغيير في سورية، مؤهلٌ، في مكان ما، لبناء صيغة تصالحية بين الدين ومدنية الدولة من ناحية، وبين المسلمين والغرب من ناحية ثانية، بعد أكثر من عقد على نموّ اليمين المتطرّف والإسلاموفوبيا غرباً، وتهميش العديد من الأقليات شرقاً والتضييق عليها. ليست الصورة مثالية، ولكن يجوز التفكير فيها، على قاعدة أن الدعم الغربي للحكم الجديد المؤقت في سورية، بل الحديث عن تزايد احتمالات رفع "هيئة تحرير الشام" عن قوائم المنظمات الإرهابية، مؤشّرٌ على مسار أكثر تشعّباً من إسقاط نظام الأسد. وهو ما عبّرت عنه تصريحات الشرع تجاه المعسكر الغربي، وتصريحات قادة الدول الغربية تجاه التغيير السوري.
وسط ذلك كله، ظلّت روسيا والصين خارج تلك المعادلة. تسعى موسكو إلى التفاهم مع هيئة تحرير الشام بشأن مستقبل قواعدها في سورية، فيما كرّست بكين عادتها في التموضع بمكان غير مؤثر على الواقع. رسّخ التغيير السوري مجدّداً عجز الصين وروسيا عن تأدية دور مقارب للدور الأميركي، وعن تمتين دعوتهما إلى عالم متعدّد الأقطاب. الزمن لا يتوقف، وقطار التغيير يتجه شرقاً إلى ما وراء جبال زاغروس.