عودة الشفوية ... هل مات الشعر فعلاً؟

01 يوليو 2023
+ الخط -

لا يُخفي الشاعر والناقد السوري، خضر الآغا، نفوره من شعر الحداثة الذي كرّسته وروّجته مجلة شعر الشهيرة التي أصدرها في بيروت، نهاية خمسينيات القرن الماضي، الشاعر اللبناني السوري يوسف الخال وضمّت إلى جانبه أدونيس ونذير العظمة وخليل حاوي وأنسي الحاج وخالدة سعيد وشوقي أبي شقرا وعصام محفوظ بمشاركة شعراء آخرين كانوا ضيوفا علي المجلة أكثر من أنهم أهل بيت، واستمرّت المجلة بالصدور ما يزيد عن 15 عاما نشرت خلالها الكثير من القصائد والدراسات النقدية والبيانات التنظيرية لشعر الحداثة العربي، وأثارت جدلا ثقافيا وسياسيا كثيرين وقتها عن أسباب صدورها بوصفها مؤامرة على الشعر العربي، وما زالت تعتبر المطبوعة الثقافية الأكثر إشكالية في التاريخ الثقافي والشعري العربي في العصر الحديث.

يرى الآغا أن شعراء مجلة شعر"كتبوا ما لا يتقاطع يمينا أو شمالا مع تقاليد القصيدة العربية، ولا يتقاطع حتى مع الشعر الذي اتّفق عليه العرب أنه قوي، وكتبوا لغة ليست عربية ولا هي أجنبية يتعامل القارئ معها كما لو أنها كتلة من الصوّان". وبرأيه، ترك هذا أثرا كبيرا على حركة الشعر العربي الذي فقد مقوّمات القصيدة القديمة المتمثلة في الصيغة الملتحمة مع الوزن، والتي ميزت الشعر العربي القديم بوصفه شعرا شفويا، كما فقدت خصائص الشعر الكتابي المليء بالأغوار والتعرّجات، تلك الأغوار التي صاحبت الشعر الغربي في تطوراته من الملحمي إلى السوناتات إلى الرومانسية ثم الرمزية والسوريالية، وصولا إلى اليومي وقصيدة البياض، حتى وقتنا الحالي، حيث يبدو أن التجريب الشعري قد توقّف مع ثورة التقنيات الحديثة التي ساهمت في عودة المدارس الشعرية كلها إلى الواجهة في محاولة للحفاظ علي هوية الشعر وسط سيطرة أنواع جديدة من التعبير، تتخذ من وسائل التواصل و"السوشيال ميديا" منابر لها. وهو في رأيي ما سوف يساهم في استعادة الشعر الشفوي مكانته، لكن هذه المرّة بالاعتماد على وسائل أخرى غير الصيغة التي جاء الآغا عليها في كتابه "عودة الشفوية .. نهاية الشعر العربي" (منشورات المتوسّط، ميلانو، 2022).

معيدا إلى القارئ تاريخ الشعر العربي القديم وشفويّته، وإسناد تلك الشفوية إلى مثيلتها في التراث العالمي (الهوميرية) والتشابه في آليات النقد لكلا المرحلتين، يتتبع الآغا في عودة الشفوية مسار الشعر العربي منذ العصور القديمة، فاردا مساحة كبيرة من الكتاب لحركة الحداثة الشعرية العربية التي كان لها الدور الأول في "موت الشعر العربي"، عبر تحويل الشعر إلى طلاسم واستناده إلى "صيغ" أخرى لا تختلف كثيرا عن صيغ الشعر العربي القديم، مع أن الشعر العربي في مرحلة تأسيس حركة الحداثة كان يفترض أنه تجاوز الشفوية لصالح "الكتابية". لكن الآغا يرى أن الكتابية، بما يجب أن تحمل من سماتٍ خاصة ومختلفة عن سمات الشفوية، كانت وهما وخدعةً مارسها روّاد الحداثة لفرض وجهة نظرهم على الحركة الشعرية العربية، مستخدمين طريقتهم في الشعر كإيديولوجيا سلطوية تفرز الشعراء والقرّاء بين تقدّمي مؤيد للتغيير والتطوير لإنقاذ العرب من تخلفهم ورجعي مناهض لمحاولة إنقاذ الثقافة العربية من موتها المحتم.

يرى الآغا أن تلك السطوة الحداثية تركت أثرا بالغا على الشعر العربي، وساهمت في موته (عكس ادّعائها إحيائية الثقافة العربية)، وأعادته لاحقا إلى مرحلة الشفاهية، لكنها الشفاهية المتجرّدة من حاملها الأصلي (الوزن)، ومحتفظة بالنمط أو الصيغة، خصوصا في شعر اليوميات الذي يُكتب في وقتنا الراهن معتمدا على الحكي اليومي، حتى لو كان هذا الحكي جميلا، لكنه لا يتمتّع بخصائص تحوّله إلى الشعر. مقدّما أمثلة من الشعر السوري ضمن جيل السبعينيات ثم الثمانينيات، ثم لاحقا شعراء الألفية الثانية حتى وقتنا الحالي.

لا تخلو كتابة خضر الآغا في عودة الشفوية من المتعة في القراءة والطرافة أحيانا، رغم جدّية البحث والمنهج، مستندا في ذلك إلى لغةٍ سهلةٍ بعيدة عن التقعّر الذي يطغى على الكتب النقدية، وعلى بعض النميمة الثقافية التي يندُر أن ينجو أحدُنا من محبّتها. ولكن، ثمة خطورة في الكتاب، تتمثل في المادة التي يقدّمها خضر الآغا لهواة نظرية المؤامرة على التراث العربي والإسلامي، وهي نظريةٌ عادت إلى الازدهار بعد افتراقات الربيع العربي، وتحاول لجم كل المحاولات لإنقاذ الثقافة العربية من غيبوبةٍ أدخلتها بها هزائم كبرى لأحلام التغيير السياسية والاجتماعية والاقتصادية.

 

BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.