عودة التسريبات وصراع الأجهزة الأمنية في مصر

12 ديسمبر 2021
+ الخط -

بعد انقلاب "3 يوليو" في مصر صيف العام 2013، كانت هناك تسريباتٌ تخرج بصورة شبه دائمة من مكتب وزير الدفاع حينها، عبد الفتاح السيسي. كانت أصابع الاتهام توجه إلى جهاز المخابرات العامة، الذي كانت لديه معارضة لصعود السيسي إلى السلطة، وقد كان هذا هو رأي الجهاز منذ كان عمر سليمان رئيسه، وكان الجهاز يطمح، بعد ثورة يناير  (2011)، أن يكون سليمان رئيس مصر المقبل، نظراً إلى علاقته القوية بالأميركان، لكنّ المؤسسة العسكرية كان لها رأي آخر. حينما أصبح السيسي رئيساً للدولة، قام بعملية "تنظيف" لجهاز المخابرات العامة، باستصدار سلسلة قرارات، تخلّص فيها من عشرات العناصر التي تنتمي لحقبة عمر سليمان، وإلى جانب نجله الذي نقله من المخابرات الحربية إلى المخابرات العامة، جاء بمدير مكتبه مديراً للمخابرات العامة، من أجل إتمام السيطرة والتحكم في الجهاز بصورة أكبر. ويبدو أنّ هذه الحملة في احتواء جهاز المخابرات العامة أتت أكلها إلى حين، فتوقفت التسريبات، وتم تجميد الصراع فترة. لكن ما لبث أن عاد الصراع بين الأجهزة الأمنية، ففي عام 2016 حدث تحالف بين المخابرات الحربية والأمن الوطني ضد المخابرات العامة، تبلور في عملية توجيه أصابع الاتهام إلى حركة حماس باغتيال النائب العام السابق، هشام بركات، بقصد تخريب العلاقات النامية بين الحركة وجهاز المخابرات العامة، إلّا أنّ المخابرات العامة حينها استوعبت الصدمة، وتعنّتت وأصرّت على عقد اللقاء مع قيادات بارزة من "حماس" في موعده في القاهرة مرتين خلال شهر مارس/ آذار 2016، وعقدت لقاءات توصلت خلالها إلى تفاهماتٍ أمنيةٍ مع قيادة المخابرات الأمنية.

صراع الأجهزة الأمنية لم يتوقّف أبداً، بل هدأت وتيرته، نتيجة حملة التغييرات داخل الجهاز

في عام 2019، عندما ظهر المقاول محمد علي، وكشف حجم الفساد المالي والبذخ في عملية بناء القصور، ما أثار الشارع، وخرجت تظاهرات تندّد بهذا الأمر، وكانت هذه هي التظاهرات الثانية التي تخرج ضد السيسي، بعد التي حدثت عند التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير للسعودية وتم قمعها. على أنّ صراع الأجهزة الأمنية لم يتوقّف أبداً، بل هدأت وتيرته، نتيجة حملة التغييرات داخل الجهاز، حينها تم طرح سؤال: هل يقف أحد خلف المقاول المنشقّ محمد علي، ويمدّه بالمعلومات؟ وهل يقف أحدٌ خلف عملية تحريك الشارع؟ كان سبب طرح هذه الأسئلة واضحاً، فمنذ الوهلة الأولى، ركّز المقاول في حديثه، على الرئيس وأسرته ورجاله في السلطة، ولم يتعرّض للمؤسسة العسكرية، محاولاً الفصل بين الرئيس والمؤسسة العسكرية والتفريق بينهما. شكّل هذا نوعاً من الضغط على المؤسسة العسكرية، وكان لا بد من محاولةٍ لإنقاذ سمعتها من هذا الأمر، فانبرى، في الأيام التالية، أشد المؤيدين للرئيس، للدفاع عن المؤسسة والتفريق بينها وبين الرئيس، بل وصل الأمر بأحدهم إلى القول إنّ ذهاب الرئيس لا يعني ذهاب النظام (تمثل المؤسسة العسكرية جوهره). وكان هذا الفصل بين الرجل والمؤسسة الأول من نوعه منذ انقلاب 3 يوليو في صيف 2013، فقبل ذلك كان الخطاب الدائم أنّه لا فرق بين الرئيس والمؤسسة العسكرية، وأنّهما متلازمان لا ينفصلان. بعدها مباشرة، أطاح السيسي عاملين في المخابرات العامة، وأجرى تغييراتٍ في قيادات الجيش، ظنّاً منه أنهم قد يكونون متورّطين أو داعمين لهذا الحراك، بصورة أو بأخرى.

عاد الحديث، قبل أشهر، عن صراع الأجهزة الأمنية، تمثّل هذا في إطاحة تامر مرسي من الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية، وتوجيه اتهامات مالية له بالفساد

في عام 2020 حدث حراكٌ جديدٌ في الشارع، فجّره قانون البناء الجديد، ما طرح السؤال نفسه: هل هناك أيّ من الأجهزة الأمنية متورّط في دعم هذا الحراك؟ وفي كلّ مرة، يتم توجيه أصابع الاتهام إلى المخابرات العامة. في السياق نفسه، عاد الحديث، قبل أشهر، عن صراع الأجهزة الأمنية، تمثّل هذا في إطاحة تامر مرسي من الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية، وتوجيه اتهامات مالية له بالفساد، لكنّ هذا الأمر تم تفسيره صراعاً بين الأجنحة، فالاتهامات الموجهة له بالفساد كان لا يمكن لها أن تتم بعيداً عن أعين الأجهزة الأمنية المسيطرة علي الأوضاع بصورة شبه كلية، لكنّ سبب الانقلاب على تامر مرسي، الصراع الواضح بين قدامى الضباط في الجهاز والوافدين الجدد، لمحاولة السيطرة على جهاز المخابرات العامة، و إحالة عدد غير قليل من وكلائه إلى المعاش. حتى اللحظة، كانت التسريبات التي حدثت في العامين 2013 و2014 قد توقفت، وخفتت وتيرة صراع الأجنحة، لكنها عادت، وهذه المرّة بصورة واضحة موجهة إلى عبد الفتاح السيسي على طريقة المقاول محمد علي، فالتسريب الذي ذاع أخيراً تناول "صندوق تحيا مصر" الذي يشرف عليه السيسي شخصياً. لكن قبل الحديث عن هذا التسريب، حدث قبل أسابيع أنّ وثائق تم تسريبها عن طريق موقع "ديسكلوز" الفرنسي، عن انتهاكاتٍ ارتكبها الجيش الفرنسي في مصر، ما تزامن مع تسريبات أخرى أنّه على مدار آخر سبع سنوات استثمر نظام السيسي في منظومة مراقبةٍ شاملة، مشكلة من ثلاثة أجزاء، شكّلتها ثلاث شركات فرنسية. عمل كلٌّ منها على هذه المنظومات بعلم من الرئاسة الفرنسية، وقدّمت الإمارات الدعم المالي. كانت شركة Nexa Technologies الفرنسية مسؤولةً عن تطوير وتركيب نظام اسمه Cerebro لمراقبة شبكات الإنترنت في مصر، بينما كانت شركة Ercom-Suneris مسؤولة عن تطوير وتركيب نظام اسمه Cortex Vortex لتتبع أرقام محمول بدقة شديدة، والتنصت الفوري على المكالمات في مصر، ثم قامت الشركة الفرنسية الثالثة Dassault Système بتطوير (وتسليم) محرّك بحث شديد التطور اسمه Exalead، وهو مسؤول عن تسليم نتائج ذكية مبنية على قواعد بيانات ومخازن معلومات وزارة الدفاع في مصر (أشبه بما يفعله غوغل من تخزين للبيانات)، وهي قاعدة بيانات ضخمة عن الناس وحياتهم، ويعتقد أنّه قد تم بناؤها منذ عام 2014.

للأجهزة السيادية المصرية التي لها حق الرقابة ميزانيات منفصلة، لا رقابة برلمانية عليها

المهم في ذلك أنّ للأجهزة السيادية المصرية التي لها حق الرقابة (المخابرات العامة، الحربية، الأمن الوطني، الرقابة الإدارية)، ميزانيات منفصلة، لا رقابة برلمانية عليها. اشترت هذه المنظومات، وهو أمرٌ يمكن فهمه في إطار أنّ هذه الأجهزة تابعة للنظام، لكن ما لم يتم فهمه أن يشتري كلّ جهاز أمني هذه الأنظمة من تلك الشركات الفرنسية، كلّ على حدة، وهو ما ذهب بعضهم إلى تفسيره، لتسهيل مهمة كل جهاز في التجسّس والتنصت على الجهاز الآخر. وإذا ما تم اعتماد هذا التفسير، فإنّه يقود إلى الحديث عن التسريب الذي شاع أخيراً لأحد مستشاري رئاسة الجمهورية (لواء جيش)، مع مستشارة أيضاً داخل رئاسة الجمهورية. أعاد هذا التسريب إلى الواجهة الحديث عن صراع الأجهزة الذي يبدو أن وتيرته قد عادت أشدّ مما كانت عليه. ويبدو أنّ تضارب المصالح وتقسيم الغنائم أحد الأسباب (محتوى المكالمة المسرّبة يشير إلى هذا)، كما أن السيطرة التي كان يُراد بسطها علي جهاز المخابرات العامة وضح أنّها لم تتم بصورة نهائية. وفي ظلّ هذه الفوضى التي تضرب تلك الأجهزة نتيجة لتضارب المصالح، فالسؤال: من سرّب لمن؟ ولماذا؟ وهل هذا الأمر أحد نتائج أجهزة التنصّت الفرنسية؟ ويبدو أنّ هذه المسألة هي التي ستكون قادرةً على تقويض أركان النظام من الداخل. فما هو شكل التحالفات الجديدة (خصوصاً حينما قال اللواء: أنا لواء شرطة وليس جيش!!)؟، وإلى أي مدىً وصل صراع الأجهزة؟ وما هي الدوافع والأسباب خلف هذا التسريب؟ وما مدى سيطرة رجال السيسي داخل جهاز المخابرات العامة على الجهاز؟ وكيف سيردّ السيسي والذين معه على هذا الأمر؟
السؤال الأهم: هل عبد الفتاح السيسي، والذين معه، قادرون على الاستمرار حتى عام 2030، وبهذه الطريقة كما هو مزمع في الدستور المعدّل؟ وهل هناك منهجية لذلك، وهل يتصوّر عاقل ذلك؟

BA733789-23B4-4A69-9D4A-CB7E100A9A4B
تقادم الخطيب

أكاديمي، باحث مصري في جامعة برلين، مشارك في الحراك السياسي المصري منذ 2006؛ ومسؤول ملف الاتصال السياسي في الجمعية الوطنية للتغيير سابقاً.