عن فوبيا اللجوء في قبرص

28 نوفمبر 2024

أنصار حزب إيلام القبرصي اليميني يتظاهرون في لارنكا ضد وجود اللاجئين (16/6/2023فرانس برس)

+ الخط -

استمع إلى المقال:

شهدت قبرص في الأسابيع القليلة الماضية حوادث دين فيها لاجئون. كانت بضع مشاجرات لمراهقين في أماكن عامّة، سرعان ما أُضيفت إليها سرقات سيارات، ثمَّ حادث أدّى إلى مقتل فتاة قاصر، رومانية الجنسية وتقيم في قبرص، كانت برفقة ثلاثة مراهقين عرب في سيارة مسروقة، أحدهم (16عاماً)، كان قد وصل طفلاً لاجئاً إلى قبرص منذ سنوات.

سرعان ما انعكست الأحداث في الشارع القبرصي، حيث استغلّ ذلك حزب "إيلام" اليميني المتطرّف، منظّماً مظاهرة في لارنكا، مسرح معظم الحوادث. هتف موالوه بشعارات مناهضة للمهاجرين واللاجئين، مثلاً: "اخرجوا الآن أيّها المهاجرون غير الشرعيين"، و"اخرجوا أيّها الغرباء من أحيائنا"، و"اخرجوا أيّها المجرمون الأجانب". وقبل تحرّكات "إيلام" بشهر تقريباً، خرجت مظاهرة في مدينة ليماسول لحزب "أكيل" ضد اليمين المتطرّف، دعماً للاجئين والمهاجرين في قبرص، هتف أتباعه: "جدّاتنا كنّ لاجئات ونحن عنصريون"، و"معاً مهاجرون وعمال قبارصة، لا للعنصرية ولا لكراهية الأجانب".

لكلّ حزب في الجزيرة نظرته السياسية إلى الواقع، وتفضيلات مصالحه وأيديولوجيته، وغالباً ما يميل اللاجئون العرب في قبرص إلى عدم الانخراط في فهم مثل تلك التظاهرات، لأنّهم يعلمون إلى أيّ درجة يمكن بسهولة أن تتعقد حياتهم في بيروقراطية الأروقة الحكومية بحثاً عن مخرج لمشكلاتهم في الحصول على الخدمات البسيطة من إقامة ورعاية صحية وفرص للعمل فيما لو قرّروا المساهمة، بشكل ما، بالضغط الاجتماعي سياسياً من أجل حقوقهم مع تلك الأحزاب أو وحدهم.

أعلنت الشرطة قبل أيام عن ترحيل 146 شخصاً، كانوا يقيمون في البلاد من دون تصاريح إقامة قانونيّة

لسان حال معظم اللاجئين قبل صعود تلك الفوبيا من ازدياد توافدهم، هو الانتظار والعمل في الخفاء، غالباً من دون أوراق، قرأنا وشاهدنا كثيراً عن حوادث توقيف للاجئين مُنعوا من العمل نتيجة عدم تسجيلهم بشكل نظامي في دائرة التأمينات الاجتماعية والعمل، وكان السبب تأخّر صدور قرارات لجوئهم للحصول على الحماية الدولية، ربما لأن الحكومة قد علقت دراسة طلبات اللجوء للسوريين في مطلع إبريل/ نيسان الماضي (2024)، بسبب تزايد أعداد المهاجرين السوريين إلى قبرص، أو أن جزءاً منهم لا يرغب في أن يكون نظاميّاً في أوراقه ونشاطه الاجتماعي.

بالطبع، لا يمكن تعميم قراءة تلك الحوادث على جميع اللاجئين في قبرص. قد تكون أفعالاً فرديّة، إنّما سوف تؤثر بشكل كبير على السياسات العامة تجاه اللاجئين، لكن الحوادث الفرديّة لم تتوقف عند القضايا الجنائية، بل ذهب الموضوع إلى أبعد من ذلك، بحسب معلومات أمنية، كانت المخابرات القبرصية قد اعتقلت ثمانية سوريين، ووجّهت السلطات لهم تهم "تمويل إرهاب" في العاشر من الشهر الماضي (أكتوبر/ تشرين الأول). أخيراً، جرت إحالة ثلاثة منهم متهمين بتمويل "منظمة إرهابية" في سورية، مباشرة للمثول أمام محكمة الجنايات في العاصمة نيقوسيا. وبحسب تقارير متطابقة، سوف تبدأ المحاكمة في السابع من فبراير/ شباط 2025. لا يزال اثنان من المتهمين قيد الاحتجاز، بينما جرى الإفراج عن الثالث بشروط ريثما تنتهي القضية، ومن تبقى منهم تمَّ ترحيله. وتفيد المعلومات بأن المتهمين جمعوا مبالغ مالية كبيرة من خلال أنشطة غير قانونية، مثل تجارة المخدّرات، وأرسلوا الأموال عبر شمال قبرص بواسطة أشخاص مقيمين في قبرص، ثمّ إلى تركيا، فسورية، لتمويل "هيئة تحرير الشام" التي تعتبرها قبرص منظمة إرهابية. وتُقدّر المبالغ المرسلة بأنها تصل إلى 50 ألف يورو أسبوعياً مند العام 2019 حتى منتصف 2024!

بالتزامن مع تلك الضجة الأمنيّة في الإعلام القبرصي، أعلنت الشرطة قبل أيام عن ترحيل 146 شخصاً، كانوا يقيمون في البلاد من دون تصاريح إقامة قانونيّة. جرت هذه العمليات بالتعاون مع وكالة حرس الحدود الأوروبية (فرونتكس)، حيث شاركت الشرطة في 14 عملية مشتركة مع الوكالة هذا العام.

الحكومة القبرصية واللاجئ يمكنهما أن يجدا صيغة تخفف من الفوبيا الاجتماعية التي تمزج بين الشعور بالأمان مع القلق النفسيّ، والاستدامة بالبقاء مع الاستغلال السياسي

وتوضح البيانات الرسمية أن إجمالي عدد المرحّلين من قبرص، منذ بداية عام 2024، بلغ 8633 شخصاً. بالإضافة إلى ذلك، نفذت وحدة الأجانب والهجرة، بالتعاون مع أقسام شرطة أخرى، عمليات تفتيش في جميع أنحاء البلاد، أسفرت عن اعتقال 80 شخصاً يقيمون بشكل غير قانوني. وتصف صحيفة قبرصية ذلك بأنه يأتي في إطار سياسة الحكومة القبرصية للحد من الهجرة غير الشرعية وتعزيز الأمن الداخلي!

ما سبق إطلالة على مناخ إعلاميّ مشحون، يعيشه اللاجئ في قبرص. ثمّة صراع يكبر يُكلله خوف مع واقع اجتماعيّ يضعه أمام خيار واحد؛ أنّ ينتبه إلى كلّ شيء يفعله، ومهما كان حذراً سوف يتشكّل لديه شعور بالنقص بأنّه لو ارتكب خطأً من دون قصده أو لقلة معرفته ودرايته بالقانون أو بسبب سوء فهم اللغة والمجتمع، من الممكن اقتلاعه من مكان إقامته في الجزيرة، وتُسحب حمايته الدولية ثم يرحّل بحسب القانون الجديد الذي صدر قبل أيام وينص على ترحيل كلّ من يقيم بموجب الحماية الدولية للاجئين إذا ثبت تورّطه بجناية خطيرة.

لدى قبرص الحقّ في أن توازن بين حاجتها الملحّة للحفاظ على أمنها القومي وسلامة مواطنيها وحقوقهم في ظلّ التوترات الجيوسياسية في المنطقة، ولكن بعض سياساتها في موضوع الهجرة أيضاً تحتاج رقابة قانونية أهلية، تشارك المجتمع المضيف، تتمتّع بالإنسانية وتقدير ظروف من يريد أن يعيش بصفة مواطن ضيف لاجئ، حقاً، وبين من يأتي لقضاء بضعة أشهر بقصد جمع النقود والعمل غير القانوني ثم العودة إلى موطنه الأصلي من دون أي اعتبار لما سوف يلحق مجتمع اللاجئين الذين يكوّن السوريون نسبةً كبيرةً منه، والذين لن يحصلوا يوماً على الجنسية القبرصية، وسوف يبقى شعورُهم بالدونية راسخاً في ظل التوترات الأمنية الصاعدة من حولهم، لأن القانون لا يمنح الجنسية القبرصية للاجئين، ويستمر الضغط من دون إيجاد مجتمع موازٍ يحقّق تواصل متكاملاً بين الحكومة واللاجئين، منظمات مجتمع مدني غير رسمية مثلاً أو هيئات إنسانية موثوقة على الأرض، هناك القليل منها لكنها ضعيفة أمام قوة التوتر الرسميّ في قضية الهجرة واللجوء.

لقبرص الحقّ في أن توازن بين حاجتها الملحّة للحفاظ على أمنها القومي وسلامة مواطنيها وحقوقهم في ظلّ التوترات الجيوسياسية في المنطقة

ربّما ينمو شعور بالخوف من اللاجئين لدى شريحة واسعة من القبارصة، منبته التأثير على الهوية الثقافية والاجتماعية في بلد يعاني أصلاً من انقسام ديني بارز بين شمال قبرص، حيث الأغلبية المسلمة المدعومة من تركيا فقط، وجنوبها ذي الأغلبية المسيحية المعترف بها دولة والمنتمية قومياً لليونان. وقد يساهم وجود أعداد كبيرة من اللاجئين القادمين من بلدان تعاني حروباً وصراعات دينية، برفع وتيرة القلق العام في المجتمع، ولكن ذلك عادةً ما تخفّفه الأدوار التي يلعبها اللاجئون أنفسهم من إضافة تنوع ثقافي وخبرات، وكذلك انكبابهم على مهن ووظائف لا يعمل فيها القبارصة عادةً، مثل البناء والزراعة وخدمات التنظيف ورعاية المسنين. ولا تقتصر تلك المساهمات من اللاجئين فقط في المهن، فهم يساهمون أيضاً في دعم عجلة الاقتصاد من خلال استخدام الخدمات الحكومية من ماء وكهرباء ودفع الضرائب، هذا إذا اتفقنا أن هناك فئة واسعة من اللاجئين يبغون الانسجام والانصهار قدر المستطاع في المكوّن القبرصي الاجتماعي، فهناك مهاجرون ولاجئون تزوّجوا من قبرصيات وحاولوا أن يوازنوا هوياتهم وعاداتهم في سبيل الاستقرار إثباتاً لحسن النية.

اللاجئ القادم من مناخ مليء بالحرب والتروما يعيش وقتاً طويلاً في امتحان قبول اجتماعيّ هنا، وهناك استحقاق سلوكيّ لا بدّ أن يحوزه للوصول إلى مستوى مواطن درجة ثانية، أي مقيم بشكل دائم، لأن اللاجئ يقيم بصفة مؤقتة وعليه تجديد بياناته مرة كلّ عامين أو ثلاثة. لا يمكنه السفر خارج قبرص بسهولة، فعليه أن يستمتع بسجنه الكبير بين المدن القبرصية الصغيرة وسط البحر والتضييق الأوروبي.

هل هناك عقول في الحكومة القبرصية يمكن أن تستغل الشريحة الكبيرة من اللاجئين الذين يتمسّكون بخيار العمل والإقامة القانونية لتحسين ظروفهم، فكلا الجانبين، الحكومة واللاجئ، يمكنهما أن يجدا صيغة تخفف من تلك الفوبيا الاجتماعية التي تمزج بين الشعور بالأمان مع القلق النفسيّ، والاستدامة بالبقاء مع الاستغلال السياسيّ.

هل يُفترض أن يبذل اللاجئ جُهداً بالبحث عن حياة آمنة في ظل قانون إنساني، تحدّه أخلاقيات صادقة؟ حسناً، أظن أن المساعدة على مبدأ المكافأة لكلّ من يثبت تقدّمه في تجاوز العقبات للتعايش السلمي في المجتمع هي فرصة للحل. بداية من تعلم اللغة المحلية، التسجيل في شؤون العمل ودفع الضرائب، العمل مع أبناء المجتمع، تطوير المهارات وقدرات التواصل... إلخ. وليس الانكفاء في المجتمعات الموازية من بيئة اللاجئ نفسها التي تعتبر تهديداً للبلاد مهما كانت سلميّة وصامتة، فالقبارصة أقرب إلى مجتمعاتنا العربية، لديهم فضول التعارف والسكينة ومحاولة العيش من دون تهديدات ولو بالخيال، لأن ذاكرتهم مخضبة بالجراح من حرب 1974، وربما لا يريدون أي عداوة مع الضيوف على أرضهم الصغيرة.